بخصوص الدستور وديباجته والذي منه!

بخصوص الدستور وديباجته والذي منه!

25 مارس 2019
+ الخط -
يعاتبني قارئ عزيز لأنني لم أدل بدلوي في موضوع التعديات السيساوية على الدستور، ولا يصدقني حين أقول له إنني كنت من أوائل من كتبوا في الموضوع، لكنه لم يقرأ ما كتبته، أو ربما قرأه ولم تحتفظ به ذاكرته المثقلة بالأحداث، ولذلك أعيد نشره لعله يجد فيه بعض الفائدة، مع الاعتذار على أي أسى ستجلبه هذه السطور أو ستجدده:

"ربما كان أفضل وأجدى لو استبدل الشاعر الكبير سيد حجاب ما كتبه في ديباجة دستور 2013 البائسة التي صارت حديث الركبان ومسخرة الزمان، بعبارة يبدو أنه نسيها في زحمة الحياة، كان قد لخّص فيها أحوال مصر منذ قديم الأزل، حين قال: "إزاي هنمشي عِدِل والسكة معووجة".

أعلم أن كثيرين يعتقدون أن ما سيجعلنا نمشي عِدِل ويرحمنا من كوارث السكة المعووجة هو الدستور وحده، وغداً ستعلمهم التجارب كما علمت غيرنا من الشعوب، أن ماشطة الدستور لن تفعل شيئاً لتغيير الواقع العِكِر، لأن الدساتير لا تُصنع لإجبار الناس على السير في طريق الحرية والعدل والعقلانية، بل يصنعها الناس بأنفسهم بعد أن يتوافقوا على أنه لا طريق لتقدمهم سوى الحرية والعدل والعقلانية، ولذلك لم يعش أبداً في تاريخ الشعوب دستور تمت كتابته في ظل حالة صراع أو استقطاب، لأن الدساتير التي تعيش طويلاً هي التي تكتب بتوافق شعبي بين الناس على المبادئ التي يريدون أن يعيشوا في ظلها أطول فترة ممكنة، وفي ذلك قال الشاعر "لو الدساتير بتنفع كان دستور الغرياني نفع نفسه".


في الوقت الذي كان أعضاء لجنة الخمسين منهمكين في المفاضلة بين كون "مصر تاج على رأس أفريقيا" أو بين كونها "رأس أفريقيا" حاف من غير تاج، كانت الخارجية المصرية تصدر بيانا تحذر فيه شباب مصر من عواقب الهجرة غير الشرعية إلى زامبيا. وفي حين كان أعضاء اللجنة يتبارون في الإشادة بفتوحات دستورهم في مجال الحريات كان ثلة من المخبرين والأمناء يعفقون شاباً متظاهراً من محاشمه كتتويج لإلتحام الداخلية بالشعب، وكان زملاء لهم يظهرون في فيديو وهم يضربون القيادي الإخواني عيد مرجونة على قفاه وهو معصوب العينين في حين يقول له أحدهم: "الليلة هيدخل عليكي عسكري يا سوسو".

وفي حين كان أعضاء اللجنة يبكون من فرط التأثر بهدايا الكرامة التي يقدمونها للأجيال القادمة، كان علاء عبد الفتاح ينام في زنزانته حافيا مقيد اليدين إلى الخلف بينما كان الضباط الذين اقتحموا بيته وضربوا زوجته ينامون في بيوتهم شاعرين بلذة الإنتصار على أخطر رجل في مصر. وفي حين كان من سبق لهم أن هيّجوا الدنيا ضد تقنين الإخوان للمحاكمات العسكرية للمدنيين، يتحدثون الآن عن المواءمات السياسية التي تستوجب دسترة تلك المحاكمات مؤكدين أنها لن تضر بريئا أبدا، كان رئيس هيئة القضاء العسكري يؤكد أن خناقتك مع عمال بنزينة وطنية ستدخلك إلى جنة القضاء العسكري، فـ "موِّن من سكات" وقل نعم للدستور. وفي حين كان الخبراء الدستوريين يخوضون مناقشات محتدمة حول صلاحيات رئيس الجمهورية كان شاب يكتب على أحد القصور الرئاسية بالإسبراي عبارة "الحرية لعدلي منصور" ليعلن انتصاراً جديداً لدولة الخيال على دولة الديباجة الموجودة على الورق.

حسنا، أنت غاضب الآن، لأني أسخف من عظمة الإنجاز الدستوري القادم، وتتوقع مني أن أنجر إلى تفاصيل الفرق بين مواد الدستور الغرياني والدستور "المغرِّي"، وأنا لن أفعل احتراماً لمبدأ "ما تدخلنيش في تفاصيل يا مدحت"، وإيمانا بأنك لو أتيت بأعظم دستور في العالم ينظر إليه جميع سكان الأرض بعين الغبطة وطبقته في مصر، ستندب في عين الغبطة رصاصة من "باشا جدع" يرى نفسه أعلى من كل دساتير الأرض.

بلغني أن الدستور الألماني يبهرك كثيرا، جميل، طيب، ما هي أعظم مادة أثارت انبهارك فيه؟، هل هي مادة "كرامة الإنسان موفورة" التي تقول كل شيئ يتمناه الإنسان في ثلاثة كلمات دون رطرطة ولا إنشاء؟، طيب، أعط هذه المادة لأحد لواءات الداخلية "المبدورين" في الفضائيات وسيصبح نص المادة "كرامة الإنسان موفورة وكل من يدوس عليها سيأخذ بالجزمة"، ولن تجد المادة المعدلة مشكلة في الحصول على نسبة تصويت عالية، فبلادنا مليئة بمن يؤمنون بنفس ذات اليقين أن الشعب المصري عظيم ورائع وما بيجيش إلا بالعين الحمراء.

سيقول لك أي كتاب محترم عن تاريخ الدساتير أن الدستور ليس سوى إنعكاس لتوازن القوى في المجتمع الذي يكتبه، ولذلك لن تستغرب عندما تجد أن شهداء ثورة يناير تم ذكرهم مرة وحيدة على استحياء في ديباجة الدستور، بينما تم الإشادة بدور الجيش أربع مرات في بروجرام واحد، وفي حين قرر كاتبو الديباجة أن يبتدعوا بدعة ذكر الأسماء في الدستور فلم يتركوا زعيما سياسيا شهيرا في القرن العشرين إلا وذكروه، بل إنهم تطوعوا بوصف عبد الناصر بالزعيم الخالد مجاملة لدولة يوليو التي أجلستهم في كراسيهم دون انتخابات حرة، فإنهم لم يشيروا لا بالأسماء ولا حتى من بعيد إلى الدور الذي لعبه الكتاب والأدباء والفنانون والعلماء في تشكيل وجدان الشعب المصري، لكي لا تظن الأجيال القادمة التي يفترض أنهم يكتبون لها الدستور أن تاريخنا هو تاريخ سياسيين وزعماء فقط، تلك الأجيال التي كان سيحسن كاتبو الدستور إليها لو أدركوا بأنه إذا كان من يستحق وصفه بالخلود في دستور الشعب فهو الشعب وحده، طبقا لعبارة عظيمة كتبها سيد حجاب ونسيها أيضا، كانت تقول أن "الباقي هو الشعب ولا في قوة ولا صعب يهد عزم الشعب".

على سيرة البقاء، ربما كان حظ هذا الدستور في البقاء أفضل من سابقيه بحكم أنه محمي بقوة السلاح، لكن المؤكد أنه سيبقى مثل الدساتير السابقة على الورق فقط، لأنه لا يخص إلا كاتبيه والقوى التي يمثل مصالحها و"الفقداء" الدستوريين الذين تتحدد مواقفهم من أي دستور طبقا لكونهم شاركوا في كتابته أم لا، في حين سيبقى "دستور الغابة" المنظم الحقيقي للحياة في مصر كالعادة، حتى تتمكن الأجيال الشابة ـ التي ليس لها كتالوج ولا ريموت كونترول ـ من فرض دستور يعبر عن خيالها الجديد الذي لا يرضى لمصر بأنصاف الحلول، ولا يقبل بتلفيقات "خلي شوية عليا وخلي شوية عليك"، وحتى يحدث ذلك يوما ما، سيبقى من هذا الدستور شيئ مهم في وجدان الناس، هو أنهم عندما يصفون شخصا بأنه مغيب عن الواقع وغير مدرك لحقائق الحياة من حوله، لن يقولوا أنه "عايش في البَلالة"، بل سيقولون أنه "عايش في الديباجة".


يهمني أن يعرف القارئ العزيز إنني نشرت هذه السطور في مقالة بعنوان (العائشون في الديباجة) نُشرت في صحيفة (الشروق) بتاريخ 4 ديسمبر 2013، ولا أراكم الله مكروهاً في دستور لديكم، وليس عندي ما أضيفه إليها في موضوع الدستور وتعديلاته وديباجته سوى الآتي:

من حق من شاء أن يغضب من رغبة عبد الفتاح السيسي في تعديل الدستور ليطول بقاؤه في الحكم حتى نهاية عمره، ثم يورثه لأحد أبنائه من بعده، ومن حق من شاء أن يقوم بالاعتراض على هذه الرغبة المنحطة، ويسعى للحشد ضدها ورفضها بأي وسيلة قانونية يراها، خاصة أن محاولات السيسي وأذرعه الإعلامية لتبرير التعديلات المشتهاة، هي محاولات مكشوفة الوجه، تفتقر إلى أي غطاء سياسي قابل للتسويق دولياً، فضلاً عن افتقارها إلى أي غطاء أخلاقي كالذي سبق للسيسي أن استخدمه محلياً في لحظات سابقة صوّر نفسه فيها كمحارب ضد مؤامرة عالمية تستهدف مصر، لكن من واجب الجميع أن يتذكر أيضاً أن السيسي وصل إلى رأس السلطة بناءً على تظاهرات شعبية عبّرت عن ملايين من المصريين كانوا يرون فيه المنقذ والمخلّص، ومن يرغب في إنكار ذلك فهو حر في خداع نفسه، وتلك الإرادة الشعبية هي أيضاً التي فوّضت السيسي لكي يستخدم القوة في قتل وقمع من رأته مختلفاً عن الإجماع الوطني، ولم تتراجع بشكل ملحوظ عن تأييد السيسي إلا بعد أن اكتوت بنار فشله وتضررت معيشتها بسبب سياساته العشوائية، بشكل لم يعد يمكن تجاهله بالشكل الذي حدث حين قام مثلاً ببيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، أو غيرها من القرارات السياسية التي لم تمس حياة الناس اليومية.

وبالتالي لن يطيح بعبد الفتاح السيسي من على رأس نظامه إلا أحد قوتين: قوة مسلحة تفوق قوته الغاشمة فيحدث له ما حدث للملك فاروق أو للرئيس أنور السادات، أو إرادة شعبية يعبر عنها ملايين يخرجون إلى الشارع مطالبين بالإطاحة به، فتضطر المؤسسة العسكرية للتخلي عنه، وتبدأ في البحث عن بدائل لتسكين الغضب الشعبي، ولأن السيسي يدرك ذلك جيداً، فهو لا يدخر وسعاً في قمع أدنى بادرة لمعارضته، حتى وإن بدت للكثيرين هامشية ولا قيمة لها، فهو يدرك أهمية تواصل وتكثيف هذا القمع في تمتين قوة التحالف الذي يحكم البلاد باسمه: تحالف المؤسسة العسكرية مع الأجهزة الأمنية والقضائية، وتوابع هذا التحالف من دلاديل البرلمان وأذرع الإعلام، وهو يدرك أيضاً أن بقاء هذا التحالف قوياً، سيقوي موقفه في التعامل مع الغرب بوصفه البديل الوحيد للفوضى في أكبر بلد عربي مجاور لإسرائيل، يمكن له أن يصدر آلاف اللاجئين إلى أوروبا في حالة انهياره، ويمكن له أن يدخل لو تم خذلانه من قبل الغرب على وجه العموم ومن الولايات المتحدة على وجه الخصوص، في تحالف مفتوح وغير مشروط مع روسيا وإيران والصين وسائر القوى المناوئة للغرب كما فعل شبيهه في سوريا من قبل.

لذلك ولذلك كله، ستكون معركة الدستور بالنسبة للسيسي معركة صفرية لن يتورع في خوضها بكل شراسة ودموية، لكن كل ما يبذله نظام السيسي من جهود للبقاء إلى الأبد بفضل التعديلات الدستورية، يمكن في الوقت نفسه أن ينهار في لحظة غضب شعبي عارمة، بسبب عدم قدرة الملايين على الصبر والتحمل، وهو ما قد يحدث بفعل أزمة بسيطة تطلق الغضب المكبوت في الصدور، أو بفعل أزمة شاملة ناتجة عن السياسات المتخبطة التي عبر عنه تصريح وزير المالية الصادم عن سياسات الاقتراض العشوائي التي يتبعها النظام، وعندها لن ينفع السيسي دستوره المعدّل، لأن الدساتير لا تدوم إلى الأبد، إلا حين توضع نتيجة توافق شعبي شامل، وهذا التوافق لا ينشأ كما يتصور البعض بدوافع نبيلة راغبة في الإخاء وتحقيق المعاني النبيلة، بل ينشأ غالبا بعد صراعات طاحنة ودامية، يدرك الجميع فيها استحالة السحق الشامل لخصومهم، ويرضى كل طرف بقيم مشتركة تجمعه مع خصومه، لأن الديمقراطية كانت ولا زالت وستظل وسيلة لإدارة الكراهية، وليست وسيلة لنشر المحبة، وحين يترسخ في الوجدان الجمعي أن من المستحيل على الجميع عملياً أن يسحقوا المختلفين معهم سحقاً كاملاً، وأقصى ما يمكنهم فعله أن يقوموا بتحجيم قوتهم وكبح تغولهم، مع ضمان حقوقهم وحرياتهم في الوقت نفسه، عندها يمكن للناس في بلد من البلدان أن يعيشوا بدساتير لها ديباجات إنشائية أو مقدمات متقشفة، أو بوثائق تقوم مقام الدستور تسجل المبادئ الأساسية لإدارة حياة الناس، أو يكتفون بالاحتكام إلى قوانين تكفل حقوق جميع مواطني البلاد، وتمنعهم من العودة إلى مرحلة (حرب الجميع ضد الجميع).

"واللي عنده ديباجة يربطها".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.