بحيرة "أفني"... بحيرة الأمل في التغيير

بحيرة "أفني"... بحيرة الأمل في التغيير

21 أكتوبر 2018
+ الخط -

الحياة عبارة عن مسار ينتهي بنقطة، والنقطة بداية الكتابة، كتابتي، يا قارئي، سفر وترحال إلى آفاق جديدة بعيدة عن اليأس الذي أصبح يباع بأفواه تبيع كل شيء إلا أن تبيعك أملا، أفواه ألفت اليأس واستأنست به وأضحى تجارتها الرابحة. لن أُظلِم الحياة في عينيك، وسأرحل بك كتابة إلى آخر رحلة قمت بها إلى مناطق نائية بعيدة كل البعد عن حياتك الرّتيبة التي تُلخصها في هاتفك من حجم كبير يحوي كل البرامج التي تقرب إليك في كل صباح بكاء البؤساء والقانطين، وقارورة مياه تعتقد أن مصدرها نبع طبيعي، نبع لم تشدّ الرحال إليه لتكشف صحة وجوده من عدمها، وجبنة مغشوشة المكونات، وحليب غاب فيه معنى الحليب...إلخ. رحلة تكسّر هذه التفاهة التي تم قولبتنا بها حتى أضحى معنى الحياة مرتبطا بها.

الرحلة ببساطة كانت صوب أعلى قمة جبلية في المغرب "توبقال" والتي تبلغ حوالي 4167م. بعد طول سفر، وصلنا أخيراً إلى جماعة توبقال. وجدت في استقبالي المرشد السياحي ابن المنطقة "إبراهيم حيمي". وهو بالمناسبة من دعاني إلى زيارة المنطقة واكتشافها، خصوصاً أنها تُصادف تنظيم أحد مهرجاناتها. جلسنا في مقهى لكي أستريح. احتسينا شايا أنا ورفيقي في السفر. انطلقنا بعد ذلك صوب دوار أمسوزارت "AMSSOUZART" مكان سكن "إبراهيم"؛ دوار جميل جدا بحكم مُحافظته على البناء الجبلي التقليدي، بناء جُل مكوناته من الحجارة، يرتفع بأكثر من 15 متراً عن سطح الأرض، متماسك ورصين تماسك أهل المنطقة بجذورهم المغربية الأمازيغية. إلى جانب جمالية البناء الحجري، شدني في خصال أهل المنطقة التواضع والعفوية والبساطة الذي تطبع سلوكياتهم وحركاتهم وإيماءاتهم. كما أعجبني سكون المنطقة وجمالها الطبيعي الذي يزاوج بين الخضرة والماء؛ فالماء بفضل القدير لا يهدأ طيلة اليوم دائم الجريان، وبالليل يكون له وقع خاص، إذ يصبح بمثابة أسبرين لنوم هادئ؛ ينعش مخيلتك للانطلاق في رحابة عالم بدون بروتوكولات، عالم ينطق بالعفوية. لنعد أدراجنا، بعدما كان سمرنا الليلي في مواضيع اختلفت مضامينها، وإن كانت تصب في مجملها عن الحال والمآل لهذه القرى التي تتحصن بهذه الجبال الشامخة التي تغيب فيها أدنى الشروط الإنسانية من مستوصفات ومدارس وبنيات تحتية...إلخ. استلقينا على الأرائك في أحد البيوت الحجرية المغطاة أسقفها بأخشاب أشجار الجوز واللوز... وغيرها، والمفتوحة نوافذها المزركشة بزخارف نباتية وهندسية تشي بعمق الحضارة في المنطقة. أحضر المُضيف الأغطية، وأنا بصدد تغطية نفسي بالفرش وجدت لذة جميلة صاحبتها قشعريرة في طبيعة فعلي هذا (التغطية).

استيقظنا صباحا وتناولنا فطورا تقليديا خاصا بالمنطقة، وشددنا الرحال صوب بحيرة افني "LAC D’ IFNI" بقيادة المرشدين السياحيين إبراهيم حيمي ورشيد برواي؛ بحيرة قيل عنها الكثير، وحيكت حولها القصص والأساطير، وكيف لا؟ وهي التي تعتبر بؤرة- مركز تحوم حولها 10 دواوير، وتحصنها سلسلة من جبال الأطلس الكبير، وتصبح بالنسبة لطالبها وعرة المنال بمسالكها التي لا يدللها إلا ابن المنطقة الداري بعراقيلها، وهذا ما ساعدنا في الوصول إليها بعد رحلة على الأقدام تجاوزت الساعتين والنصف، تعرّفنا فيها على مختلف المنتجات التي تزرع بهذه الجبال من: (جوز، لوز، تفاح، زيوت، حب الملوك)، واكتشفنا البنية العميقة التي تربط سكان المنطقة بالماء والحجر في طقوسهم وسلوكياتهم. سجّلنا كذلك، صعوبة وجمالية أن تستمر إنسانا شامخا كهذه الجبال التي تحيط بهذه البحيرة التي تعكس لون السماء تارة، ولون الجبال تارة أخرى. هذه البحيرة الأمل التي تقع على ارتفاع حوالي 2390م عن سطح البحر، وتعتبر من بين أجمل البحيرات على المستوى الايكولوجي فيه، إنها متنفس حيوي يبعث الحياة –بفضل القدير- لأكثر من 10 دواوير.

رغم وعورة المسالك وتشعبها، رغم ما قد يحدث لجسم الإنسان الذي يشدّ إليها الرحال لأول مرة من قبيل العياء الشديد، عدم القدرة على التنفس بشكل جيد، خفقان في القلب؛ إلا أن رؤيتها بعد مشقة سيعيد إليك (أنت الرحالة) توازنك السيكولوجي الذي سيرخي ظلاله أخيرا على قدراتك الجسمانية، وستهرع كالطفل إليها لملامسة عالمك الأول، عالم الإنسان القديم الذي مازال دِفْؤه يسكن الجبال المحيطة بها والتي يمتد تاريخها لأكثر من 24 مليون سنة.

الرحلة إلى بحيرة افني هي رحلة للاكتشاف والمغامرة، رحلة للاستئناس والتعريف بالمنطقة، ربما جمالها الرباني يستهويني ويستهوي غيري من السياح، لكن هل تعني السياحة عدم العمل على تطوير المنطقة للأفضل؟ وهل تعني السياحة أن أستمتع بمناظرها الجميلة من دون أن أرد إليها الجميل، بالقول إنها مهمشة على مختلف المستويات، وفي حاجة إلى إنقاذ حكومي لها حتى يمكنها أن تصبح رائدة على المستوى السياحي. وبالتالي يعود نفعها على مواطن الدولة المغربية الساكن في هذه المنطقة، وكذلك على خزائن هذه الدولة بالنفع. فالسياحة التي ترنو إلى مصلحة الوطن وتنميته لا تعني الاعتماد على ما هو كائن فقط، بل تعتمد على تثمين وتطوير ما هو كائن (مواريث طبيعية وثقافية) ليصبح ما يجب أن يكون.

E57748E2-6C98-491D-9CB4-0E262B46862C
أكثيري بوجمعة

باحث وكاتب في مجال الدراسات الثقافية والفنون البصرية.