بانتظار ضيوف محتملين

بانتظار ضيوف محتملين

15 نوفمبر 2014

بريشة (أيغوين موريتي موريز)

+ الخط -

من المتفق عليه أن الكرم من الصفات الحميدة الاستثنائية التي تضفي على الشخص المتميز بها مهابة  وقبولاً اجتماعيين كثيريْن، وتجعله قريباً ومحبوباً من الآخرين، وإذا ما توفرت هذه الصفة النبيلة في شخصٍ، فإن صفات إيجابيه سوف تتفرع عنها، بالضرورة، لأن  الكريم محبٌّ عطوف،  يتمتع بحس العدالة، غير متملك، ذكي وشهم وشجاع، ما يجعلنا بصدد نموذج إنساني بالغ الإشراق والرقي، ولعل قيمة الكرم واحدة من أبرز صفات العربي الذي تربّى منذ الصغر على  مفاهيم وقواعد أخلاقية وسلوكية، تعلي من شأن هذه الصفة، وتعتبر إكرام الضيف والاحتفاء به من معايير الأصل النبيل، وتحفل الحكايات الشعبية بمواقف كثيرة تحتفي بمبدأ قراية الضيف الذي له صدر البيت دائماً. نعم، في جذور ثقافتنا أصول وقواعد وطقوس تنظم آداب الضيافة، وتتفوق، في لباقتها، على أحدث نظريات علم الإتيكيت، والمعروف في التقاليد البدوية، كذلك، أن الضيف سوف يحظى بكل الحماية والرعاية الممكن توفرها، وطالما (داس) بساط المضيف، فإن طلباته مستجابة وذنوبه مغفورة لا محالة، ولا يختلف الحال لدى القروي الذي كان يخصص أفضل موقع في حوش الدار لاستقبال الضيوف، وكان مألوفاً جداً  فيما مضى من أزمان أكثر بهاءً أن يمتد أمد الزيارة، ولا سيما بين الأقارب، ليصبح أياماً وليالي، يتمتع في أثنائها الضيوف بخدمات تتجاوز فنادق النجوم الخمسة، من حيث الحفاوة وحرارة الاستقبال. ولعل كثيرين منا ما زالوا يحتفظون بأجمل ذكريات طفولتهم من عبق تلك الأزمان، حين كانت العائلات تتبادل الزيارات الممتدة الحافلة، يحلون ضيوفاً على بيوت الأقارب في أجواء خالية من التكلف شديدة الألفة والحميمية، لم يكن للتلفزيون أي حضور فيها، بل كان حاضراً، وبقوة التواصل الإنساني الحر والطيب والحميم، حيث السهرات والتعاليل، وحكايا الجن تسردها الجدات وضحكات الكناين المكتومة إثر الاستماع إلى طرائف، يسردها الرجال، وعيون الصغار مفتوحة على اتساعها، تقاوم النوم، وتصر على السهر والمشاركة في ذلك الصخب الجميل.

وبعد أن نردد، بكل الحنين الممكن، عبارة (سقالله) أيام زمان ولياليها، نتأمل بحسرةٍ في لحظتنا الراهنة، لكي نعاين كم اختلف الحال بنا، فتقلصت طقوس التواصل بين الأفراد إلى حدها الأدنى، واقتصرت على المناسبات الكبرى من زواج ووفاة وميلاد، وانكفأ الناس على ذواتهم، ربما انسجاماً مع طبيعة التطور الذي فرض شروطه على واقعنا الاجتماعي، فتحققت عزلة الأفراد وتباعدهم، على الرغم من وهم وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة التي تؤكد عزلة الفرد، ولا تبددها، كما أرى.

على الرغم من تبدل الحال، وترديه، على الصعد كافة، ما زال الفرد العربي، شرقاً وغرباً، يحمل، بالفطرة، جينات مضادة للعزلة، فائقة النشاط اجتماعياً، لديه شوق غريزي طبيعي إلى التواصل مع الآخرين، والرغبة في الانتماء إلى المجموعة، باعتبارها عزوة ومصدر قوة وثقلاً وامتداداً ضروري، وتأكيداً على مكانة اجتماعية. لذلك،  فإنه يتجاهل، حين الإقدام على تأسيس بيت  الزوجية،  صيغة حراكنا  الاجتماعي  المتدني،  ويظل مصراً على تخصيص أجمل نقطة في البيت، لاستقبال الضيوف في  حجرة تحمل اسمهم، متحفية المظهر، خالية من نبض الحياة، لأنها لا تستخدم إلا موسمياً، وعلى سبيل الاستثناء، وتحتل هذه المنطقة وتوابعها من أدوات الضيافة، المؤجلة في العادة، حيزاً كبيراً، قد يبلغ صف مساحة الشقة الكلية، وتحشر العائلة، أحيانا، في مساحة ضيقة، وتعطل إمكانات الراحة للعائلة، في سبيل الحفاظ على  أطقم الجلوس الفاخرة الباهظة الثمن، صماء جاثمة في صمتها على أهبة الاستعداد، بانتظار ضيوف محتملين كفّوا، منذ زمن طويل، عن ارتكاب فعل الزيارة الإنساني، المرتبط بدوافع الود  البسيطة، واستعاضوا عن ذلك، في معظم الأحوال، بالقيام بسائر الواجبات الاجتماعية، ولكن افتراضياً، وبرعاية شركات الاتصال ذات العروض المغرية، ولا سيما في  المناسبات والأعياد. 

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.