بازار كذب في الشرق الأوسط

بازار كذب في الشرق الأوسط

14 يونيو 2019
+ الخط -
يروي وزير خارجية أميركا الأسبق، جون كيري، في كتابه "كل يوم إضافي" (Every Day Is Extra)، الذي صدر في سبتمبر/أيلول الماضي عن دار سايمون آند شوستر، تفاصيل اتصال هاتفي أجراه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، عقب خطاب ألقاه الرئيس باراك أوباما في "إسرائيل" عام 2013، في فندق الملك داود، أخبره نتنياهو أن "الجميع في منطقة الشرق الأوسط يكذب". من المؤسف الاعتراف بصدقية نتنياهو فيما قاله لكيري في تلك المكالمة، فالكل يكذب قولاً وفعلاً، وقد أزاح الحراك السياسي الجاري في الشرق الأوسط لترويج ما يعرف بـ"صفقة القرن" و"ورشة البحرين" اللثام عن بازار مفتوح للكذب يَتَسَيّدُه الأميركيون. وقد تحدّث رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عباس، في كلمةٍ له أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في 15 أغسطس/آب 2018، عن كذب الأميركيين بمرارة، في سياق حديثه عما يروجه عرّابو "صفقة القرن". ولا يحتاج التعرّف على مواطن كذب الإدارات الأميركية المتلاحقة إلى فراسة استثنائية، إذ يكفي النظر سريعاً إلى ما أسفرت عنه عملية السلام التي تنفرد واشنطن برعايتها منذ ما يزيد عن ربع قرن.
والعرب أيضا كذَّابون، ويوغلون في كذبهم، وهم يزعمون رفض ما يرفضه الفلسطينيون، وقبول ما يقبلونه، فقد أعلن الفلسطينيون رفضهم "صفقة القرن"، ورفضوا المشاركة في "ورشة البحرين"، فهل صدق العرب؟ كذب العرب قبل ذلك، عندما تبنّوا، في قمة بيروت عام 2002، مبادرة السلام العربية التي قدمها ولي عهد السعودية في حينه، عبد الله بن عبد العزيز، ونصت على إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعترافٍ وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل. كذب العرب فيما قالته قمّتهم، ولم نر منهم إلا تطبيعاً مجانياً يشهد "ازدهاراً جديداً، ونهضة كبيرة" كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، خلال احتفالية أُقيمت في القدس لإحياء ذكرى مرور عام على نقل السفارة الأميركية إلى المدينة. ويُسرف العرب في الكذب، وهم يشهرون سيوف الكلام دفاعاً عن أولى القبلتين وثالث الحرمين، فلا كلامهم، ولا أموالهم، منعا الرئيس الأميركي من نقل سفارة بلاده إلى القدس، بعد أن اعترف بها عاصمة لإسرائيل.
وحتى الفلسطينيون يكذبون على أنفسهم، وهُم يتمسّكون بأهداب عملية سلام وهمية، أو يصرّون على اجترار أطول كذبة في التاريخ المعاصر. يكذب الفلسطينيون على أنفسهم، إذ صدَّقوا أن إسرائيل تريد سلاماً عادلاً ودائماً، فهذا الكيان المبني على الأكاذيب لا يسعى إلا لربح الوقت، كما قال كيري في كتابه، وكل يوم هو إضافي بالنسبة لإسرائيل لتحقيق مزيد من الاحتلال، والأهم تطبيع وجودها "اللاشرعي" في المنطقة. ولا أبشع من الكذب إلا التستر الفلسطيني على مؤامرةٍ تُحاك ضد الشعب الفلسطيني وقضيته. ومن غير المقبول الاكتفاء بالحرد استراتيجية مواجهة، فالجرّافات الإسرائيلية لا توزع المحارم لمسح دموع الحردانين، بل تغرس بنود صفقة القرن مستوطناتٍ ومستوطنين في الأرض وعليها.
ويكذب الإسرائيليون على كل العالم، وعلى حلفائهم، وهم يتظاهرون بالسعي نحو السلام، بينما هم، طبقاً لما أورده كتاب كيري، غير مكترثين بهذا الإرث، إلا من باب ما يحفظ أمنهم، ويُجرّد الفلسطيني من كل أدوات المقاومة والصمود. ولا تبدو إسرائيل مشغولةً بالتوصل إلى حل مع الفلسطينيين، بقدر اهتمامها بمواجهة إيران في الساحة الدولية، "بالتعاون مع شركاء في المنطقة والعالم"، كما جاء في وثيقة وزارة الخارجية الإسرائيلية، الخاصة بـ"أولويات السياسة الخارجية للعام 2019". يصدُق الإسرائيليون فقط مع أنفسهم، حتى نتنياهو الكذاب الأكبر، يصدُق جمهوره وهو يتعهد بإطلاق يد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وبإبقاء القدس عاصمة إسرائيل الأبدية.
الحقيقة الوحيدة فيما يجري في الشرق الأوسط أن صفقةً ما تجري في الغرف المظلمة لتصفية القضية الفلسطينية، وسط صخب بازار كذب تحتل إسرائيل فيه موقع الحليف.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.