باتريسيو هلسه.. من مأدبا إلى رجل دولة في تشيلي

باتريسيو هلسه.. من مأدبا إلى رجل دولة في تشيلي

28 يونيو 2020
هلسه.. أثرعربي في سياسة تشيلي(ناصر السهلي/العربي الجديد)
+ الخط -
بكثير من الابتسامات والتفاؤل يتحدث باتريسيو هلسه عن أصوله الأردنية-الفلسطينية، وهو يستعرض صوراً منتشرة على جدار ممر منزله في العاصمة التشيلية سانتياغو.

يُسهب الرجل وهو يشرح عن كل صورة تقريباً، وتلمع عيناه حين يتحدث عن وصول أجداده إلى تشيلي قبل أكثر من 100 سنة: "هذه أمي، ولدت أيضاً في تشيلي، وجدي الذي ينحدر من الزيب قضاء عكا، التي احتلها الإسرائيليون في النكبة، سألته شرطة الحدود التشيلية عن اسمه واسم عائلته، كان يصعب على هؤلاء نطق نفاع، فاكتفوا بتدوين ديب".


شهادة هوية جده لأمه منذ عام 1940 معلقة على جدار بيته. يشرح باتريسيو أن "العرب لم يحضروا إلى هنا على أمل العودة إلى الأرض الموعودة أو المتخيلة، سرعان ما اندمجوا وأراد جدي أن يكون تشيلياً".
ينتقل باتريسيو إلى صورة جده نعمان ليضيف "الكلمة الوحيدة التي أعرف كتابتها بالعربية هي هذه (هلسه)، وهي تطلق بالإسبانية ألسا بدون الهاء، وهو هنا في هذه الصورة في عمر 24 سنة في 1918 في تشيلي.. وهلسه من الأردن عائلة مسيحية، لكن أسرة أمي عديلة مسلمة من قضاء عكا، وقد هُجرت بقية الأسرة من الزيب إلى جنوب لبنان، إلى مخيم أظنه عين الحلوة".
في تشيلي، التي تغيرت فيها أسماء واختلطت دماء وجنسيات وأديان العرب الأوائل، سيولد والد باتريسيو، وهو كذلك، من زيجة مختلطة، مأدبية عكاوية.
خلفية
قبل أكثر من 100 سنة تبدأ رحلة عائلة هلسه في هذا المهجر اللاتيني. القصة كما يرويها باتريسيو تتعلق أكثر "ببحث عرب ذلك الزمان، قبل فرض حدود بين الدول العربية، عن فرصة لتحسين حياتهم لأجل أطفالهم، فمأدبا بالنسبة لي لا تختلف عن فلسطين، التي جاء منها جدي يوسف أو خوسيه بحسب ما صار اسمه التشيلي. لهذا تجد أن من هم من أصول عربية ليسوا فقط مندمجين كتشيليين بل لديهم مكانة محترمة صنعوها بعملهم وجهدهم الطويل".


الملاحظ أنه حين استقبلنا السيد باتريسيو في منزله، بضواحي سانتياغو، وهو خريج الهندسة المعمارية في جامعة سانتياغو، يبدو طراز بيته على الطريقة الأندلسية والعربية، حيث صممه وأشرف على تشييده. لم يقلق كثيراً للهزة الأرضية التي ضربت المكان أثناء الحوار معه قائلاً "لا تقلق البيت مضاد للهزات". عند الباب الرئيسي، ثمة جدار مرتفع بلون أسود: "هذا الجدار بني من الصخور التي جرفتها الجرافات أثناء التحضير للأساسات، فقلت للمشرفين على البناء يجب أن تبقى هذه الصخور جزءاً من البيت فاخترنا الجدار. وقبل أدراج المنزل، في الفناء خلف الجدار، سيدهشك تصميم بحرة بنافورة على الطريقة الدمشقية، في الممر تنتشر صور أصلية ووحيدة ورثها عن عائلته وهي بالأسود وألابيض، وفي الصالون يشرح باتريسيو، الذي يتأسى لأنه لا يجيد العربية: "هذه من المغرب"، وهو يشير إلى مرآة أحضرها بنفسه، وإلى مصباح طاولة مطرز بخط عربي من القرآن: "تلك من الأردن".


وقبل الخروج إلى حديقة الفناء الخارجي تثير الانتباه لوحة بورتريه رسمها فنان تشيلي شهير لرفيق وصديق باتريسيو الرئيس الأسبق سلفادور الليندي مع توقيع للأخير مُهدى لباتريسيو.

على عمدان حديقته الواسعة تنتشر صحون فلسطينية وأردنية النقش، كتلك التي تشتهر بها مدينتا الخليل والقدس، ويداعب باتريسيو في الأثناء كطفل فرح شجرة مشمش: "هذه زرعناها منذ 20 سنة، انظر كم أصبحت كبيرة". وينطق المشمش بالعربية حين يحنو على بعض ثمارها: "هنا يأتي الأحفاد ليقضوا وقتاً معنا" وهو يداعب ورداً جورياً جاء به من سفراته العربية. على مقاعد الدراسة في سانتياغو سيتخذ باتريسيو هلسه خطاً يسارياً، وعلى خطى والده سيخوض غمار السياسة ويدفع ثمناً باهظاً في معتقلات الانقلابي أوغستو بينوشيه على الرئيس المنتخب الليندي في 1973. في تلك الفترة، وبعد أن صار باتريسيو رئيساً لاتحاد طلبة تشيلي كان الرجل قد أصبح بعد إنهاء الدراسة الجامعية قيادياً بارزاً في "الحزب الشيوعي التشيلي"، قبل أن يختلف معه ويخرج منه.


لم يأتِ انخراط هلسه في السياسة التشيلية من فراغ. فلوالده إسكندر نعمان هلسه تاريخ عريق في السياسة، ما جعل باتريسيو أيضاً أحد رموز معارضي الدكتاتورية، والمنظر الفكري والمشارك في التحول الديمقراطي في بلده "دون استثناء أحد من الأجنحة السياسية".


إرث تاريخ طويل
باتريسيو هلسه عارض لجوء الحزب الشيوعي، الذي كان مشاركاً في ائتلاف حكومة الليندي، إلى السلاح لإسقاط الديكتاتورية أثناء وجوده في المعتقل: "جهزوا عملية تهريب سلاح عبر البحر، وكانت الخطة اغتيال بينوشيه، وأحمد الله أن الخطة فشلت وانكشفت قبل وقوعها، حيث أُوقع بالرفاق بوشاية، إذ كنت مدركاً بعد اطلاعي عليها ومعارضتي للخطة أنه لو أطلقوا النار لن يستطيعوا النيل من بينوشيه بسبب حمايته الكبيرة، ولو جربوا وفشلت العملية لكنت والمئات اليوم في عداد الذين كان سيعدمهم الديكتاتور كانتقام جماعي". لكن ما الذي أوصل شاباً كان يعيش مرحلة "ثورة شباب الستينيات"، وهو ابن لعائلة ثرية، إلى هذا الحد من الولع بالسياسة؟
القصة ببساطة تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، إلى والده المحامي والسياسي الشهير إسكندر هلسه، الذي تعلق بالقضية الفلسطينية بطريقة أثارت الانتباه. فقد جهز إسكندر في جامعة سانتياغو، الذي كان أيضاً في تلك الأيام "رئيس فيدرالية الطلبة التشيليين" ندوة عن "المشكلة الفلسطينية" استمرت لأربعة أيام متتالية، وجه بعدها المستوى الأكاديمي وطلاب جامعات تشيلي، وبمشاركة زعامات طلابية من أصول لبنانية وسورية وفلسطينية، مذكرة رسمية للحكومة لشجب قرار التقسيم، طالبة منها "التدخل في الأمم المتحدة لإنصاف الشعب العربي صاحب الأرض الأصلية"، كما جاء في المذكرة، وهو ما حصل.


أثار نشاط والد باتريسيو انتباه ساسة أحزاب البلد، فشارك في وضع دستور للديمقراطية التشيلية في القرن الماضي. كان إسكندر هلسه خطيباً مفوهاً ومقنعاً، وأصبح في 1952 من أهم مسؤولي حملة المرشح للرئاسة، الضابط السياسي كارلوس إيبانيز ديل كامبو، الذي أصبح بالفعل رئيساً في نظام رئاسي (1952-1958). ولم ينسَ إيبانيز الدور الذي لعبه ابن مأدبا في إيصاله إلى السلطة، وهو الذي طاف البلاد من شمالها إلى جنوبها لحشد تأييد شعبي له. فجرت تسميته وزيراً للزراعة والأراضي، بفضل علاقاته الجيدة بين ملاك الأراضي والفلاحين. ولا يخفى أن الجيل الأول من مهاجري فلسطينيي تشيلي، وعربها عموماً، كانوا من ملاك الأراضي إلى جانب رحلتهم الطويلة في تأسيس صناعة النسيج في البلد وتجارة الأقمشة، بيد أن الجيل الثاني منهم ذهب نحو التحصيل العلمي، وقلما تجد حتى بين الأجيال الرابعة والخامسة من لم يكمل تعليمه، حيث يحتل الفلسطينيون والعرب عموماً مناصب مهمة في مفاصل الاقتصاد والصناعة والسياسة في البلد.

احتاجت البلد في عام 1954 إلى من يصلح علاقة تشيلي المتوترة مع بوليفيا، فأُرسل إسكندر هلسه سفيراً إليها، واستطاع عملياً تحسين العلاقة. ولفت نشاط هذا العربي جاليات عربية في تلك المغتربات، لتشكل نقطة تحول دخول عرب اللاتينية مضمار السياسة. وبالفعل بدأ هؤلاء الاتجاه نحو الاندماج في السياسة وليس فقط في الصناعة والتجارة، لنصبح أمام قوائم من أسماء وزراء ورؤساء وأعضاء برلمانات ومحافظين ورؤساء بلديات منتخبين في دولهم التي لم تمارس تمييزاً بحقهم.

في تلك البيئة نشأ باتريسيو هلسه. سيكون لوالده بصمته وتأثيره على اتجاهه نحو السياسة، فهو الذي أصبح وزيرا في ثلاثة حكومات، وأهمها وزارة المناجم، هذا إلى جانب زميله حنا سليم عطيه (أصوله من دير عطيه في سورية) الذي شغل منصب وزير الأشغال العامة. وسيصبح والد باتريسيو وزيرا في ثلاث حكومات متعاقبة، ومن بينها وزارة المناجم، حين كان الشاب هلسه يترعرع في تلك البيئة كان يخط لنفسه طريقه في السياسة أيضا. ولا يخفي باتريسيو هلسه فخره بأصوله العربية، رغم عتبه على ابتعاد العالم العربي عن الديمقراطية التي يرى فيها "أساس تقدم الدول ونشر العدالة الاجتماعية". يعتقد باتريسيو هلسه، الذي شارك بعد سقوط الديكتاتورية في تشيلي بكتابة الدستور وفي الانتقال الديمقراطي، أن عرب أميركا اللاتينية "قدموا نموذجا حقيقيا لمعنى الاندماج وإظهار الحرص على تقدم وتطور دولهم التي هاجر إليها أجدادهم".



لأجل ديمقراطية تشيلي
شغل باتريسيو هلسه في الفترة الديمقراطية عضوية مجلس الشيوخ مرات عديدة حتى 2016. وشغل أيضا منصب سفير تشيلي في باريس لـ4 أعوام في 2004. وهو اليوم، وعلى خلفية ثورة خريف 2019 في الشارع التشيلي مشارك بشكل فعال في وضع تعديلات دستورية لحل أزمات البلد. رفض باتريسيو الانضمام إلى الجانب التنفيذي في الحكم بعد المرحلة
الديمقراطية: "اخترت دائما المستوى التشريعي ولم أرغب أن أكون في الحكومة، فالتشريع هو الأهم لديمقراطية بلدنا، ومع تقدم العمر والتجربة الطويلة أعتبر أن التساوي بين الناس أساسي.

واختلافي مع الحزب الشيوعي أنه يظن بمقدوره الحكم وحده، رغم أنه في أحسن الأحوال لن يحظى سوى بتأييد 36 في المائة من الناخبين، وبالتالي من أجل وحدة وتقدم البلد يجب أن يكون هناك حلول وسطى لتحولات ديمقراطية، ولحكم أقرب إلى الاجتماعي الديمقراطي الذي يوفر مساواة وعدالة اجتماعية ويرفض العنصرية المجتمعية والمؤسساتية. أما إصرار اليسار على أن يكون بمعزل عن الآخرين في بلدنا فهذا سيجعله دائما يعيش بمفرده". لباتريسيو أيضا مشاغله المتعلقة بالقضية الفلسطينية، فهو واحد ممن شاركوا في تأسيس لجنة أصدقاء فلسطين في البرلمان، التي يشارك فيها أكثر من 90 في المائة من البرلمانيين. وهو وجه معروف بمناظراته وتصديه للوبيات اليهودية التي تحاول النيل منه في سانتياغو والجوار.
وهو وجه معروف بين فلسطينيي تشيلي، كغيره ممن انخرطوا في الحياة العامة، وضيف في "النادي الفلسطيني" في سانتياغو. ويؤيد الرجل بقوة حركة الشارع التي تطالب بتغيير سياسي ودستوري لأجل مزيد من العدالة الاجتماعية في البلد اللاتيني الذي عُد الأكثر تطورا بعد الانتقال الديمقراطي.



دلالات

المساهمون