بائع الزجاج في كركوك

بائع الزجاج في كركوك

03 يوليو 2014

مصطفى البرزاني مع صدام حسين بأربيل/مارس 1970 (Getty)

+ الخط -

 2 يوليو 2014

في العراق، اليوم، حدثان خطيران، من شأنهما تقطيع أوصال المشرق العربي برمّته، وتخليع ما بقي فيه من أبواب ونوافذ ومصاريع. هما احتلال قوات البيشمركة مدينة كركوك، وهو الأهم، وإعلان الخلافة الإسلامية، بزعامة أبي بكر البغدادي، بعد تسعين سنة بالتمام على زوالها في اسطنبول، وهذا له كلام آخر. والواضح أن الجميع في العراق، اليوم، يطلق النار على الجميع، وفي جميع الاتجاهات. وحده مسعود البارزاني منصرفٌ إلى جمع القذائف الفارغة، ليعيد حشوها، واستخدامها بفاعلية. لقد انتهى نوري المالكي (أو جواد المالكي، كما كان يدعى إبان المنفى الدمشقي)، ولعله يفتّش، الآن، عن موقعٍ يجنّبه المنفى ثانية، أو عن حمايةٍ ما، وسيجد، بالتأكيد، هذه الحماية في إيران، أو لدى مرجعية السيستاني، لكن المالكي يجب أن يُحاكم على المصائب التي أنزلها بالعراق؛ فهو مسؤول عن انسحاب الجيش العراقي من الموصل وكركوك، من دون أن يدافع عن المدينة، ولو بطلقة. وهو المسؤول المباشر عن إفقاد هذا الجيش شرفه العسكري، لأنه حوّله إلى جيش لطائفة، وليس جيشاً لوطن.
إذا كان مسعود البارزاني يمثّل، اليوم، اللاعب الشاطر في اقتناص الفرص، فإن المالكي كان يمثّل، حتى اليوم، الانتهازية بأقبح تجلياتها، بل الانتهازية المتسربلة بالتعصب الطائفي. فقد طبّق المثل المشهور: "عندما تتولى القردة سلطان الحكم فارقص أمامها كما ترقص". وطوال فترة حكمه، رقص أمام الإيرانيين والأميركيين والأتراك والسعوديين، وأَمْتَعَهم برقصه كثيراً، لكن وصلته الأخيرة انتهت بكارثة؛ فقد حطم العراق، وأدخله في أدغالٍ من المحال الخروج من متاهاتها بسرعة، وصار العراق على يديه أسداً عجوزاً جريحاً، تتناتشه الضباع الطائفية من عيار "عصائب أهل الحق" و"داعش"، وغيرها من أعاجيب الحركات السياسية المنفلتة من أي عقالٍ، أو عقل.
الصراع على النفط هو ما يسربل العراق، اليوم، بعد احتلال كركوك. وإسرائيل باتت لاعباً مكشوفاً في هذا الصراع، بعدما ظلت، طوال ستين سنة، لاعباً مستوراً إلى حد ما. وكركوك هي مدينة "النار الأزلية" التي بُنيت تقديساً للنار المشتعلة، جراء النفط الذي يفور من تحت الأرض والغاز المنبعث من باطنها. وها هي اليوم تكاد تُشعل المشرق العربي برمته.

* * *
يروي جوناثان راندل أن فلسطينيةً سألت مصطفى البارزاني عن صلته بإسرائيل، فأجاب: "أنا مثل شحاذ أعمى، واقف على باب الجامع الكبير في السليمانية، أعجز عن رؤية مَن يضع في يدي الممدودة قطعة نقدية" ("أمة في شقاق"، بيروت: دار النهار، 1997). الأعمى لا يمكنه أن يقود شعبه إلى الحرية، بل إلى المصائب. وهذا ما فعله البارزاني الأب. أما خليفته "كاكا" مسعود، فتحوّل من الشحاذة إلى لعب دور بائع الزجاج: في الليل يلقي الحجارة على النوافذ، وفي النهار يعرض إصلاحها، (تحيا الانتهازية!). وبهذه الروح الاقتناصية، سقطت كركوك، وهي مدينة يقطنها الأكراد، وليست مدينة كردية على الاطلاق. وأمام خيار منطقة شيعية من بغداد إلى البصرة، وخلافة داعشية من دير الزور إلى ديالى، فإن عرب كركوك وتركمانها ومسيحييها سيختارون، على الأرجح، الدولة الكردية التي سيظفر بها البارزاني، أخيراً، وهو الأمر الذي فشل فيه والده. أما السطو على كركوك، بحجة وجود أكراد فيها، فلا تنطلي على أحد. النفط هو الأساس، ووجود الأكراد في هذه المدينة ذريعةٌ ستجعل تركيا تطالب بحقوق قومية مزعومة في الموصل وكركوك معاً، وستتدخل لحماية التركمان، مثلما تدخلت في قبرص، بذريعة حماية الأتراك فيها.

* * *
وقوفنا المبدئي إلى جانب حقوق الأكراد يجب ألا يجعلنا نغمض أعيننا عن العنصرية الكريهة التي تنبعث من بعض الأوساط الكردية، كالمطالبة بطرد العرب من المناطق ذات الأغلبية الكردية. وجلال الطالباني، أو "مام" جلال، الذي أعلن موافقته على عودة اليهود الكرد إلى كردستان لم يتجرأ على المطالبة بعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، مع العلم أنه كان يعمل سراً مع وديع حداد في سبعينيات القرن المنصرم، ويعرف أن الطرد (أو الترانسفير) مسلك صهيوني تماماً، لكن الوقوع في غرام أميركا أنساه الحليب الذي رضعه من الثورة الفلسطينية. ويا للعجب، فأميركا التي كانت الدولة الوحيدة في التاريخ التي انتقلت من "الهمجية" إلى التحضّر مرة واحدة، هي التي دشّنت رحلة العودة من التحضّر إلى الهمجية في العراق، الذي نشأت فيه أقدم حضارات البشر.