انهيار الدولة القومية أم انهيار النخب؟
كانت المقدمات تدل على أن تغييراً كبيراً سوف تشهده دول العالم، وأن التاريخ الإنساني يمر بمفصل جديد. كان تفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين إيذاناً بانهيار النظام الدولي القديم القائم على توازن القوى، وبروز نظامٍ جديد، يهيمن عليه القطب الأحادي بقيادة الولايات المتحدة والدول الغربية، بكل ما يعنيه ذلك من اختلال في ميزان القوى وهيمنةٍ واجتياح للعالم من دون حسيب وفرض رؤيته الأحادية على العالم. وعندما كان النظام السياسي في المشرق في بيات شتوي، والنخب في عجز تام عن ملاحقة الأحداث المتسارعة ومشروع العولمة الذي خلخل ثوابت ثقافية وحضارية، وأدى ذلك إلى انقسام النخب في العالم بشأن العولمة، بين من كان لديها استعداد لطمس الهويات، وأخرى هربت إلى الماضي لإيجاد النموذج البديل. أما النخب العربية فلم يكن صوتها مسموعاً في ظل هيمنة الخطاب السياسي، وفي ظل أميةٍ بكل أشكالها تضرب الشعوب العربية. كان النظام العالمي الجديد يعد التقارير والسياسات للمنطقة، بشأن مفهوم الشرق الأوسط الجديد ثم الكبير.
في 1991، ومع انعقاد مؤتمر مدريد، ظهر مفهوم الشرق الأوسط الجديد أول مرة، بمبادرة إسرائيلية أميركية ومن الدول الأوربية مع البنك الدولي، وصاحب الفكرة هو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، شيمون بيريز، ويرتكز المشروع على أسس اقتصادية، وقد تعثر ولم يصل إلى غايته، لأسباب كثيرة. تجدد، مرة أخرى، ففي العام 2001، وضعت لجنة استشارية، تعرف بلجنة هارت رود مان، تقريراً (البيئة الأمنية الكونية الجديدة في الربع الأول للقرن الحادي والعشرين)، ويضم وثيقة الشرق الأوسط الكبير، وحدد منطقة الشرق الأوسط (العالم العربي، إسرائيل، تركيا، آسيا الوسطى، القوقاز، شبه القارة الهندية)، وذكر أنها شديدة الأهمية، لأنها أكبر مستودع للطاقة في العالم، وفي الوقت نفسه، مصدر المتاعب نفسه. في العام 2002، قدمت مؤسسة راند تقريراً وضعه لوران مورافيتش، وهو محلل استراتيجي لوزارة الدفاع الأميركية، يقول إن الولايات المتحدة عازمة على إجراء تغيرات جوهرية في المنطقة، ثم أكدت وزيرة الخارجية السابقة، كوندوليزا رايس، أن مسيرة تحول الشرق الأوسط لن تكون سهلة، وستأخذ وقتاً من الولايات المتحدة.
نلمس مما سبق أن واضعي السياسات في الغرب هم النخب من مفكرين ومحللين وأصحاب الرأي، وكل موضوع مهما صغر يخضع لدراسة، والساسة منفذون، على غير ما في الشرق، فالنخب، بكل أطيافها، مهمشة، وليس لديها كلمة في السياسة، إذا لم تكن، أصلاً، في السجون أو المنافي. والملاحظ، أيضاً، أن الغرب يعلن سياسته على العالم من دون مواربة، وهذه صفة القطب الواحد، لأنه يعرف أنه ليس هناك من يحاسبه، وهذا دليل بسط هيمنته على العالم. وفي وقتٍ يتبدّى فيه عجز النخب الشرق أوسطية عن مواكبة التطورات المتلاحقة، أو طرح رؤية بديلة للرؤية الغربية المعلنة، تكون حاجز صد.
وتتضح مثابرة الغرب، فعندما أعلن عن مشروع الشرق الأوسط الجديد وتعثر، لم يتراجع النظام العالمي عن الفكرة وحاول بطريقة أخرى، وبمسمى الشرق الأوسط الكبير، وزادت من زخمه أحداث "11 سبتمبر". وكان رد فعل النخب العربية على هذه المشاريع المعلنة والنوايا غير المستترة ضجيجاً وصراخاً، ثم تلاشت الأصوات، وتحولت النخب التي أصيبت بالملل، كالعادة، إلى موضوع جديد. للأسف هنالك مثابرة وفعل غربي في مقابل كلام وعجز مشرقيين.
بدأ تدشين إعادة هيكلة الشرق الأوسط بالحرب الأميركية، بدعوى محاربة الإرهاب على أفغانستان، والضغط على باكستان إلى درجة سحق العظام، أما المنطقة العربية، وهي المعنية حقاً بإعادة هيكلتها وإقامة شرق أوسط كبير على أسس اقتصادية سياسية، لا يشترط فيها هوية ثقافية وحضارية، دشن مشروع الشرق الأوسط الكبير بحرب العراق، ثم تقسيمه طائفياً عرقياً، بعد الغزو الأميركي في 2003، ثم انفصال جنوب السودان عن شماله 2010، ثم ركوب موجة الربيع العربي، لتعميق الصراع الطائفي العرقي في سورية واليمن وليبيا، ويبدو أن سكينة الفصل لن تتوقف، حتى تنهار بنية الدولة القومية في البلدان العربية، لتبرز الدولة الطائفية والعرقية، فتتحول الدول العربية إلى كياناتٍ صغيرة، لا يجمع بينها رابط أو شعور قومي، حتى يسهل دورانها حول الفلك الإسرائيلي الأميركي، وليس هذا من باب نظرية المؤامرة، بل تدلل وقائع عليه.
هل يعني تصدع بنية الدولة القومية في البلدان العربية إخفاق النخب بأطيافها اليمينية واليسارية والمعتدلة وعجزها، أم أن هذا الإخفاق يعود إلى حالة الجمود في الوعي الثقافي والثبات الحضاري الذي تعيشه الأمة؟ على كل الأحوال، يبدو أن المخاض الدموي الذي تعانيه منطقة الشرق الأوسط ينذر بنتائج كارثية على شعوب المنطقة، ما لم تسارع النخب السياسية والفكرية إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، يدير التنوع العرقي والديني داخل كل دولة، ليرمم التصدع البنيوي فيها، وما لم تعمد دول المنطقة إلى إيقاف الصراع الإقليمي الطائفي الذي اشتعل في أكثر من بلد، وإيجاد إجماعات تجلب الاستقرار للمنطقة.
على أي حال، فضح غزو العولمة انغلاق الوعي الثقافي الحضاري في الشرق، وتهرؤ رؤيته للعالم. ولذلك، ترغب حركات أصولية صداماً مع الغرب، على أرضية العقيدة، بعد أن عجزت عن مجاراته حضارياً. أما إذا عجزت نخب المشرق، خصوصا العربية، عن إجراء نقد ذاتي، وإعمال حفر في المشروع القديم بكل أوجهه، السياسية والاقتصادية والثقافية، بأدوات حفر صحيحة، ومن ثم تقديم مشروع حضاري بديل.