انفصام لبناني

انفصام لبناني

01 اغسطس 2018
غسان سلهب: سينما سجالية (فيسبوك)
+ الخط -
التغاضي عن المفارقة مستحيل، فهي تأكيد إضافي على انفصام عميق بين نمطين من التفكير اللبناني إزاء وقائع البلد وأنماط عيشه ومسالك ناسه، وكيفية مقاربة هذا كلّه. الاحتفال بالسينما اللبنانية في الدورة الـ21 (20 ـ 29 يوليو/تموز 2018) لـ"مهرجان غواناخواتو السينمائي الدولي" (المكسيك) يُنبّه إلى المفارقة التي تصنع عيشًا يوميًا في بلد (لبنان) يعاني أمراضًا شتّى، لعلّ أبرزها كامنٌ في تلك المفارقة نفسها، المتمثّلة في التناقض الفظيع والخطر بين صورتين متصادمتين بحدّة وعنف، إحداهما مع الأخرى: أولى سياحية بكل ما تعنيه هذه المفردة من معانٍ ترويجية إيجابية بحتة، وثانية سينمائية بغلبة أساسية للسجاليّ والتفكيكيّ.

فالسياحي متمثّل في أغنية تقول نقيض الواقع بخفّة واستسهال وترويج يُذكِّر بالأشرطة الدعائية للأحزاب الفاشية المتنوّعة، بينما الواقع اليومي في لبنان مليء بالانهيارات والفوضى والعنف والتمزّقات والاضطرابات الكثيرة، في المستويات كلّها. السياحي مُخادع، يقول بأمجاد لبنانية غير حاضرة في راهن موبوء بالخراب، وبأحوالٍ يُراد لها تحريضًا على اكتشاف إيجابيات "أن تكون لبنانيًا"، بينما الواقع اليومي صادمٌ بشدّةِ اختلافه الجذري عن صُور إعلانية باهتة.

والواقع اليومي نفسه، بجوانب كثيرة منه، منعكسٌ في أفلامٍ معروضة في الاحتفال المكسيكي هذا بالسينما اللبنانية، بشكلٍ يُثير ما هو أقوى من الصدمة، وأعمق من الدهشة، وأخطر من الانبهار بفتاتٍ متبقٍ من أيامٍ قليلة منتهية منذ أزمنة بعيدة. فالغالبية الساحقة من الأفلام المختارة للدورة الـ21 هذه منبثقةٌ من حالة الخراب اللبناني المتفاقم يومًا تلو آخر، في محاولة سينمائية تجذب العين، وتحثّ العقل على السؤال والتفكير، وتتيح للمهتمّ متعة مُشاهدة اشتغالات بصرية مهمّة ومتكاملة، دراميًا وجماليًا وإنسانيًا وسرديًا.

فالأفلام تلك غير مُجامِلة وغير معنية بالقشور وغير مكترثة بالترويج الدعائي، لأنها نابعةٌ من تأملات صانعيها التي تذهب بعيدًا في مقارعة ترويج دعائي كهذا، عبر اختراق المحجوب، وتفكيك المبطّن، وكشف المسكوت عنه، ونقل حقائق المعاناة بلغة سينمائية متينة الصُنعة. واللائحة المختارة طويلة، والأفلام المعروضة عديدة، والمسائل والتساؤلات والأحوال والمشاعر المشغولة فيها مستلّة من راهن لبناني تقوى فيه سلبيات العيش ومخاطره.

إذًا هي مفارقة ينتبه إليها المُدركون خراب البلد وفوضاه، ومشاهدو الأفلام اللبنانية المختارة، إذْ لن يكون صعبًا عليهم إدراك البؤس اليومي المُقدَّم في سينما تستمرّ في صناعة صُوَرٍ لبنانية أصدق وأعمق وأجرأ وأهمّ، علمًا أن الأفلام تلك مختارة من فصول لبنانية مختلفة، تتوزّع على حقبات عديدة، منذ منتصف خمسينيات القرن الـ20 لغاية الآن، ما يعني أن التنويع البصري منسحبٌ أيضًا على أزمنة لبنانية تتشابه في شقاء اليومي وبؤس العيش.

دلالات

المساهمون

The website encountered an unexpected error. Please try again later.