انسحاب تجمع المهنيين السودانيين: محاولة تصحيح مسار الثورة والتحالفات

انسحاب تجمع المهنيين السودانيين: محاولة تصحيح مسار الثورة والتحالفات

27 يوليو 2020
كان تجمّع المهنيين أساس ثورة ديسمبر 2019 (فرانس برس)
+ الخط -

أربك القرار الذي اتخذه تجمع المهنيين السودانيين، أول من أمس السبت، بالانسحاب من هياكل تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير الحاكم، الساحة السياسية، وسط توقعات بأن يؤدي خلط الأوراق من جديد إلى نشوء تحالفات قد تغير المشهد تماماً. وتجمع المهنيين السودانيين هو تحالف نقابي تأسس في عام 2016، وقاد في ديسمبر/ كانون الأول 2018 الحراك الجماهيري المناوئ لنظام المعزول عمر البشير. ودخل في تحالف عريض مع عدد من الأحزاب والتكتلات السياسية، مطلع عام 2019، أفضى إلى تشكيل قوى إعلان الحرية والتغيير، التي سيطرت على السلطة بعد إطاحة النظام، بالتشارك مع العسكر. وانتخبت القيادة الجديدة للتجمع في اجتماع للمجلس المركزي، وهو مجلس يضم ممثلين للنقابات، في مايو/ أيار الماضي، بالطريقة نفسها التي اختيرت بها القيادة القديمة. ويُحسب عدد من وجوه القيادة الجديدة، رغم بعدهم عن الأضواء وعدم معرفة الكثير لهم، على الحزب الشيوعي السوداني المتهم عند الطرف الآخر باختطاف الكيان النقابي. أما القيادة القديمة التي تتمسك بشرعيتها، ومن بين قيادييها محمد ناجي الأصم إحدى أيقونات الثورة، فمحسوبة لصالح التجمع الاتحادي، أحد مكونات الحرية والتغيير. لم تجد العملية الانتخابية اعترافاً من القيادة القديمة ولا من قوى الحرية والتغيير، التي احتفظت بممثلي التجمّع داخل هياكل الحرية والتغيير من دون أن تستبدلهم بالوجوه المنتخبة. وفي موازاة ذلك برزت للقيادة الجديدة توجهات غير متوافقة لا مع التحالف ولا مع الحكومة الانتقالية. وتُصرّ على رفع شعار تصحيح مسار الثورة كلياً، والجدية في القصاص للضحايا الذين سقطوا أثناء الثورة، خصوصاً الذين قضوا إبان فضّ اعتصام القيادة في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2019.

وقّع التجمّع إعلاناً سياسياً في جوبا مع "الحركة الشعبية قطاع الشمال" ــ فصيل عبد العزيز الحلو
 

وتشدّد القيادة الجديدة للتجمع على وجوب قيام الحكومة بخطوات صارمة تجاه تفكيك النظام السابق ومحاكمة رموزه، واستكمال هياكل السلطة الانتقالية، وقبل ذلك إصلاح عملية التفاوض الجارية في جوبا، مع الحركات المسلحة لأنها لن تنتج سلاماً حقيقياً بكيفيتها الحالية. كذلك يتحفّظ التجمع المهني على استمرار هيمنة العسكر على مفاصل اتخاذ القرار في الحكومة وسيطرتهم المطلقة على شركات أمنية ذات تأثير اقتصادي كبير. وبلغت الخلافات بين التجمع بقيادته الجديدة والتحالف الحاكم ذروتها، حتى قرّر التجمع الانسحاب يوم السبت من هياكل الحرية والتغيير. واتهم في بيان له التحالف بتجاوز مواثيق التأسيس، ووعد بتنظيم مؤتمر عاجل للقوى الثورية الموقعة على تلك المواثيق، للتباحث حول إعادة بناء وهيكلة قوى الحرية والتغيير، لتصبح معبّرةً عن القوى صاحبة المصلحة في حماية مكتسبات ثورة ديسمبر والبناء عليها. وأشار بيان التجمع المهني إلى أنه منذ إطاحة النظام البائد، بدأت التباينات في تقديرات ومواقف القوى الموقعة على الإعلان تعبّر عن حدتها، بحكم اختلاف المصالح الذي فرضه ذلك الانتصار الجزئي، مضيفاً أن تجمّع المهنيين كان بطبيعة الحال جزءاً من تلك التجاذبات، وأسهم توازن القوى داخل تجمّع المهنيين، وقتها، وبين أطراف قوى الحرية والتغيير، في وقوع تجاوزات وأخطاء كبيرة في مسار التفاوض مع المجلس العسكري، أفضت إلى توقيع اتفاق سياسي لا يرضي التطلعات. فما نتج عنه من ترتيبات لم تفضِ إلى انتقالٍ مدني ديمقراطي كما ينبغي ولم تفكك بؤر وجيوب النظام المخلوع. وأضاف البيان أن المجاملة والترضيات وضعف الالتزام بالأهداف المعلنة للفترة الانتقالية أضحت أساس معظم قرارات واختيارات التحالف في علاقته مع السلطة الانتقالية، سواء في الترشيحات أو التعيينات أو القرارات المشتركة. كما انتقد تكوين المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، لأنه لا يعكس أوزان وأدوار الكتل والكيانات الموقعة على الإعلان، وكذلك آليات اتخاذ القرارات داخله. وانتقد كذلك أداء حكومة عبد الله حمدوك، خصوصاً في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية. ويبدو أن التجمع الذي يحظى كذلك بتوافق مع "لجان المقاومة"، وهي جسم شبابي نشأ في الأحياء وبات مؤثراً جداً في تحريك الشارع، جادّ بما يكفي في مواقفه، خصوصاً لجهة بناء تحالفات جديدة تتجاوز بقية مكونات الحرية التغيير. فبعد ساعات على بيان انسحابه، أعلن التجمّع، أمس الأحد، توقيع إعلان سياسي في جوبا، مع "الحركة الشعبية قطاع الشمال" (فصيل عبد العزيز الحلو)، وهي الحركة المسيطرة على مناطق واسعة في منطقة جنوب كردفان وأجزاء من النيل الأزرق، وتتعثر المفاوضات بينها وبين الحكومة الانتقالية لتمسكها بقيام نظام علماني في البلاد.

وكشفت مصادر لـ"العربي الجديد" أن التجمع ينوي تطوير العلاقة مع فصيل الحلو إلى التأسيس لتحالف جديد، من المرتقب أن يضم كذلك "حركة تحرير السودان" بقيادة عبد الواحد محمد نور، التي تتمتع هي الأخرى بعمق شعبي، خصوصاً في إقليم دارفور. ويحتمل أن يضمّ التحالف الجديد عدداً من الأحزاب داخل تحالف الحرية والتغيير، لا يبدو الحزب الشيوعي الذي يُعتقد أنه وحده الذي يحرك خيوط اللعبة السياسية داخل التجمع، بعيداً عنه، وإذا اكتملت شروط التحالف الجديد فسيجد السودانيون أنفسهم أمام واقع جديد يعيد ترتيب الأوراق من الجديد. وفي موازاة ذلك، تسعى مكونات الحرية والتغيير إلى امتصاص صدمة انسحاب التجمع، بتقوية مركز وقوة القيادة القديمة له، والتي تصرّ على أنها الممثل الشرعي للتجمع. وقد ردت على انسحاب الأخير السبت، بوصفه "يأتي استمراراً لمشروع التخريب الممنهج لمؤسسات حكم وقيادة الفترة الانتقالية، وضربة لوحدة الجماهير"، مؤكدة أن التجمّع (بقيادتها) سيظلّ عضواً قيادياً وفاعلاً في تحالف قوى الحرية والتغيير ومُمثلاً في هياكله كافة، وداعماً للحكومة الحالية. ولا يواجه تحالف الحرية والتغيير الحاكم معضلة التجمع وحدها، إذ إن حزب "الأمة"، أكبر الأحزاب في التحالف، له أيضاً مواقف مماثلة بعد تجميد عضويته منذ إبريل/ نيسان الماضي، ورفض في الأيام الماضية قرارات تعيين الولاة، بل أمر بعض منتسبيه المعينين وعددهم 6 بالانسحاب. كذلك أبدت أحزاب أخرى داخل التحالف تململها من طريقة تسييره. من الواضح أن حكومة عبد الله حمدوك هي المتضرر الأساسي من التشتت والانقسام داخل حاضنتها السياسية، إذ تفقد في كل يوم يمر جزءاً من أرضيتها السياسية وتجد نفسها في مواجهة الضغوط، سواء تلك التي يضعها أمامها العسكر بشكل أو بآخر، أو الشارع المتأثر بغلاء الأسعار والخدمات، أو ضغوط النظام السابق الذي يجتهد لإفشالها واستغلال الثغرات كافة، عدا تحريكه الشارع بالتظاهرات بواجهات مختلفة. ظاهرياً يبدو المكون العسكري المستفيد الأبرز من تضعضع نظيره المكوّن المدني عبر تلك الانقسامات والخلافات، لكن طبقاً لحسابات أخرى، قد يجد المكون العسكري نفسه الخاسر الأكبر من ذلك الحراك واضطرابه، لأن التحالف الجديد الذي يسعى تجمع المهنيين ومن معه لتشكيله يستهدف مباشرة الهيمنة التي يفرضها للعسكر حالياً، كونه لا يرى فيهم سوى امتداد مباشر لنظام البشير. ويركز الحزب الشيوعي السوداني تحديداً على ارتباط تلك المجموعة العسكرية بالمحور السعودي الإماراتي المصري غير المتحمس، بتقديره، لقيام نظام ديمقراطي في السودان. كذلك حذّر سابقاً من استغلال السودان في الصراعات الإقليمية، سواء في اليمن أو ليبيا، ما سيؤدي إلى خسارة أخرى للعسكر، بعد نجاحه إلى حدّ ما في استقطاب بعض القوى المكونة للحرية والتغيير، وبعض أعضاء هياكل السلطة الحالية، سواء في مجلس السيادة أو مجلس الوزراء. وأي ابتعاد لهم، في حال تمّ تشكيل الهياكل من جديد، سيفقُده داعمين.

ينتظر كثر الخطوة المقبلة للحزب الشيوعي السوداني القادر على قلب التحالفات داخل قوى الحرية والتغيير
 

في السياق، يقول عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، كمال كرار، لـ"العربي الجديد"، إنه آن أوان تكوين تحالف جديد، وإنّ المقصود بكل التحركات الحالية تصحيح مسار الثورة السودانية وتصحيح الأوضاع داخل الحرية والتغيير، معرباً عن أمله في استمرار وحدة التحالف حتى نهاية الفترة الانتقالية لضمان نجاحها. ويرى أن تباين المواقف أمر طبيعي في تحالف يضمّ أكثر من 100 تنظيم سياسي، وأن ذلك التباين هو مصدر قوة يجعل من التحالف حاضنة سياسية فعلية تدعم وتراقب الأداء الحكومي. ويلفت إلى أن التوقيع على الاتفاق السياسي بين تجمع المهنيين السودانيين و"الحركة الشعبية" فصيل الحلو، يتسق تماماً مع ميثاق الحرية والتغيير والوثيقة الدستورية، وهي خطوة تدفع عملية السلام قدماً مع طرف أصيل من عملية السلام المتعثرة. من جهته يرى الصحافي عمرو شعبان أن حراك تجمع المهنيين يعكس بشكل واضح عمق أزمة قوى الثورة، والتناقضات حول تصحيح مسارها، ويعكس أيضاً حالة نفاد كل الفرص المتاحة لإصلاح وتصحيح مسار المكون المدني. ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن التجمع يستعيد بمبادرته زمام المبادرة التي أفلتت منه طوعاً في السابق لصالح القوى السياسية، وأن التجمع يستشعر الخطر على الثورة بسبب ضعف وهزال قيادة الحرية والتغيير، وتهميش القيادة الجديدة للتجمع ورفض استيعابها في الهياكل، وفي ذلك تسفيه واستصغار للتجربة الديمقراطية. ويشير شعبان إلى أن أي اختلال في حالة الانسجام بين الحرية والتغيير يستفيد منها الشريك العسكري في السلطة عادة، غير أن التحركات الأخيرة تستند إلى دعم الشارع ولجان المقاومة، الحارس الرئيسي للثورة والمدافع عنها والرافض لتمدد العسكر، وهو ما سيؤثر سلباً على العسكر الذي يفتقر إلى العمق الشعبي. ويؤكد أن التوقيع على الإعلان السياسي بين التجمع والحركة الشعبية بمثابة بداية اصطفاف سياسي جديد يجيب بصورة واضحة وجلية عن سؤال: ماذا بعد نجاح الثورة. لكن القيادي في تحالف الحرية والتغيير، جعفر حسن، لا يرى أن ثمة خطراً حقيقياً على التحالف وأن البيان الذي صدر باسم تجمع المهنيين صادر من مجموعة مجهولة، لن يكون لها أي تأثير على المعادلات السياسية الحالية. ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن القصد من كل تلك البلبلة هو تخريب وإفشال الفترة الانتقالية برمتها ورسم صورة سيئة للثورة نفسها، مؤكداً أن الشعب السوداني مستوعب وواعٍ تماماً لما يدور، ولن يسمح بذلك، ولن يترك الفرصة لضياع أحلامه في الحرية والسلام والعدالة. بدوره، يشير قيادي آخر في الحرية والتغيير، هو معز حضرة، إلى أن ما يدور داخل التحالف أمر مؤسف ويعزز الانقسامات القديمة التي تتخذ طابعاً شخصياً وحزبياً وتجافي الحكمة والموضوعية، معتبراً في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن خروج تجمّع المهنيين من التحالف حدث لا يمكن تجاوزه، لكنه، مقارنة بعدد الأحزاب والمكونات داخل الحرية والتغيير، قد لا يكون له أي تأثير. ويوضح أن المحاولات مستمرّة لاحتواء الخلافات، وأن لجاناً شُكّلت لهذا الغرض، لكنه يعبّر عن خشيته من تقاطع الأجندات بما يفشل أي محاولة للتقارب.

المساهمون