انسحاب أميركي ثالث من "يونسكو": أبعاده وانعكاساته

انسحاب أميركي ثالث من "يونسكو": أبعاده وانعكاساته

15 أكتوبر 2017
اعتادت المنظمة تقلبات الرأي الأميركية (ميغيل مدينا/فرانس برس)
+ الخط -
لم يكن قرار الولايات المتحدة الأميركية، الذي أعلن عنه وزير خارجيتها ريكس تيلرسون، الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، أمراً ليقلق كثيراً المنظمة، فقد اعتادت تقلبات الأمزجة في الإدارات الأميركية المتغيرة، وبات معروفاً أن الإدارة الأميركية حينما تريد أن تستقوي على منظومة الأمم المتحدة تستقوي على من تراه أضعفها فيها وهي "يونسكو".

وفي كل مرة تكون الذريعة مواقف "يونسكو" تجاه القضية الفلسطينية وما كانت تسميه الإدارات الأميركية "معاداة يونسكو لإسرائيل". علماً أن المراقبين المتابعين لعمل منظومة الأمم المتحدة، يعرفون جيداً أن القرارات الدولية الأصعب والأقسى المتعلقة بإسرائيل والقضية الفلسطينية صادرة أصلاً عن مجلس الأمن الدولي، والتي تطالب إسرائيل بالانسحاب الكامل من كل الأراضي المحتلة عام 1967. وأبرز هذه القرارات هو قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379، الذي اعتُمد في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1975 بتصويت 72 دولة بنعم مقابل 35 بلا (وامتناع 32 عضواً عن التصويت)، وهو يحدد "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري". وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية، التي بحسب القرار تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين.

هذا القرار الأخير، الذي تراجعت عنه الجمعية العامة عام 1991، باعتباره شرطاً إسرائيليا للموافقة على المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام، لم يدفع الولايات المتحدة إلى التخلي عن المنظمة الأم لأن هذا الأمر في صراع النفوذ الدائم غير وارد على الإطلاق. فكان لا بد من إيجاد كبش محرقة يكون عبرة لمن اعتبر في منظمات المجتمع الدولي. وكان انسحاب واشنطن الأول من "يونسكو" عام 1976، رداً على رفض قبول عضوية إسرائيل في المجموعة الأولى للدول والتي هي مجموعة دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. ذلك أن إسرائيل لا يمكن قبولها ضمن المجموعة الخامسة التي تضم الدول العربية في آسيا أو أفريقيا، فجرى اقتراح أن تنضم إسرائيل إلى المجموعة الأولى المتعارف على تسميتها مجموعة الدول الغربية. ولكن هذا الأمر يجب أن يوافق عليه المؤتمر العام، الذي رفض ذلك بالتصويت، فكان موقف الولايات المتحدة بإعلان الانسحاب من "يونسكو". ولكنها عادت بعد سنتين وكانت إسرائيل انضمت إلى المجموعة الغربية في كل المنظمات الدولية من دون استثناء.

أما الانسحاب الثاني من "يونسكو"، فجاء في عهد الرئيس رونالد ريغان، عام 1984، الذي كان يحمل شعار المواجهة مع الاتحاد السوفييتي، كحصان رهانه الأساسي ومعه "حرب النجوم". وكان يعتبر أن منظومة الأمم المتحدة معادية للموقف الأميركي بفعل التحالف الطبيعي بين دول العالم الثالث وبين الاتحاد السوفييتي والصين. وكان يبحث عن مكان افتراضي قبل دخول الزمن الافتراضي ليشن حرباً على هذه المنظمة التي وصفها يوماً بأنها "قليلة الأدب". فجاء اقتراح "يونسكو" من أحد كبار مستشاريه، روبرت ماكفرلين، بأن تلقن واشنطن درساً للأمم المتحدة لن تنساه في "يونسكو"، التي لا تتوقف عن انتقاد إسرائيل والوقوف ضد الإرادة الأميركية. كما أن الانسحاب من المنظمة سيوفر على واشنطن بعض النفقات، ولن يؤثر على وجودها المعنوي بين الدول الأخرى، خصوصاً أن صوتها فيها يساوي صوت أي دولة أخرى.

وما أتاح تسهيل هذا الموقف وقتها كان وجود أفريقي على رأس "يونسكو"، هو السنغالي أحمد مختار امبو، الذي كان وجهاً ساطعاً من وجوه العالم الثالث في المنابر الدولية. ولم يكن هذا الأخير يخفي الدور الذي لعبه لصالح دول العالم الثالث، آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وسبق قرار الانسحاب حملة تشهير في الإعلام الغربي ضده، وضد ما كان يسمى في ذلك الحين النظام الإعلامي العالمي الجديد، الذي عملت "يونسكو" على بلورة تقريره، بمشاركة كتاب وإعلاميين عالميين من القارات الخمس، وضع تحت عنوان "نحو نظام إعلامي عالمي جديد". وولدت هذه الفكرة من رحم المجلس الاقتصادي والاجتماعي لمنظمة الأمم المتحدة والداعي إلى إقامة "اقتصاد عالمي جديد"، تكون فيه العدالة متاحة للجميع ويتاح فيه تقاسم الفرص والثروات.


وكانت الدعوات الأميركية القائمة على تقديس فكرة السوق الحرة، تتركز أيضاً على اعتبار أي محاولة للكلام أو التفكير بتنظيم العامل الإعلامي هي انتهاك لحرية الصحافة والإعلام. واعتبرت أن فكرة "الإعلام العالمي الجديد" تكريس للإرادة السوفييتية في وضع اليد على وسائل الإعلام.
هذا الكلام تمت مواجهته في المحافل، على أساس أن تعزيز القدرات الإعلامية في دول العالم الثالث والفقيرة بصورة عامة حتى تتمكن شعوب هذه الدول من إيصال أخبارها والحديث عن تجاربها ومعاناتها لا يعني إطلاقاً الحد من حرية الإعلام بل إيجاد مساحات إعلامية جديدة لتُمارَس فيها هذه الحريات.

ولكن الحرب الباردة كانت في أتون استعارها ولم يكن النقاش قابلاً للأخذ والرد. فكان الانسحاب الأميركي من "يونسكو" وحدها عام 1984، تجربة ثانية في معركة فرض النفوذ على الأسرة الدولية. واستمر هذا الانقطاع حتى العام 2003 (تاريخ العودة الفعلية)، حين قرر الرئيس جورج بوش الابن، الهجوم على العراق مع ما نجم عن ذلك الهجوم من هزات ارتدادية ما تزال تتزايد حدة حتى اليوم. وهناك من نصح الرئيس الأميركي حينها بالعودة إلى "يونسكو"، خلال حملة التحضير لغزو العراق، ومن ضمن حملة التحضير النفسية والإعلامية لهذه الحرب.

ومع قبول دولة فلسطين دولة عضواً في "يونسكو" من قبل المؤتمر العام للمنظمة عام 2011، توقفت الولايات المتحدة الأميركية عن دفع مستحقاتها المتوجبة عليها كدولة عضو في المنظمة. هذه المستحقات تُعتبر ديناً على الدولة المعنية وليست منّة منها أو دعماً إضافياً، فالدولة التي تتوقف عن دفع مستحقاتها لا يعود لها الحق بأن تمارس عملها في شكل طبيعي لجهة أن تنتخب أو تدلي بأصواتها، وتصبح حكماً دولة مراقبة. علماً أن الولايات المتحدة كانت تراكمت عليها ديون لسنتي 2010 و2011.

لكن هذا الوضع الشاذ لم يغير شيئاً من وضع الولايات المتحدة داخل المنظمة، بتأثير مباشر أو غير مباشرة من المديرة العامة الحالية إيرينا بوكوفا، بل بقيت عضواً كامل الصلاحية يُنتخب ويصوت ويشارك في المجلس التنفيذي وغيره من دوائر القرار في المنظمة. وحتى الاحتفالات بالأيام الدولية والعالمية التي تتنقل بين الدول الأعضاء، فكان لواشنطن حصتها المتميزة فيها تحت إدارة بوكوفا، مثل اليوم العالمي للجاز، الذي احتفي فيه في البيت الأبيض عام 2016، في الوقت الذي تقوم فيه إدارة المنظمة بتدابير التقشف الواحدة تلو الأخرى من دون أي نتيجة مُرضية بسبب توقف الولايات المتحدة عن تسديد مستحقاتها.
بقاء الولايات المتحدة الأميركية في حالة غير واضحة، أي تعليق دفع ما عليها وبقاؤها عضواً في المنظمة، جعل دولاً أخرى تتوقف أيضاً عن الدفع مثل اليابان والبرازيل، من دون أن يتجرأ أحد على أن يطالب بالقيام بالإجراءات اللازمة ضدها في هذا الشأن، لأن السابقة الأميركية هنا كانت واضحة.

وقرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب ليس أمراً جديداً أو مفاجئاً أو حتى مسيئاً لـ"يونسكو"، بل إنه تقرير وفاة لحالة موت سريري مستمر منذ سنوات. بل أكثر من ذلك إنه مفيد لإدارة المنظمة العتيدة لأن النسبة التي كانت مخصصة للولايات المتحدة في الميزانية العادية للمنظمة ستوزع على الدول الأعضاء الأخرى. الأمر الذي يكون مستحيلاً، في حال بقاء الولايات المتحدة الأميركية عضواً في المنظمة.
أما مسألة الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وإن كانت مسائل خلافية بين أغلبية الدول الأعضاء في المنظمة وبين الولايات المتحدة ومعها إسرائيل، فإنها مجرد ذريعة. "قميص عثمان" هذا، ترتديه الإدارة الأميركية في هذه المعركة الافتراضية أو تلك ضمن المنظومة الدولية.

المساهمون