انتفاض الفلسطينيّين في سياقه الإقليميّ والدّوليّ

انتفاض الفلسطينيّين في سياقه الإقليميّ والدّوليّ

20 أكتوبر 2015
+ الخط -
من المهمّ والمفيد للفعل الانتفاضيّ الفلسطينيّ الآنيّ، تناول سياقه الإقليميّ والدّوليّ، وتأمّل أهمّ علامات تأثّره بمعطيات هذا السّياق؛ علمًا أنّ الإسرائيليّين، مؤسّسةً رسميّةً وإعلامًا ومحلّلين، لا يتوقّفون عن استحضار الوضع الإقليميّ لدى حديثهم عن هذا الفعل تحت عنوانٍ واحدٍ موحّد: "موجة إرهاب"، وإن كان هذا الاستحضار يتمّ، غالباً، لديهم بسطحيّةٍ يمكن إيجازها في جملتين مكرورتين: انظروا ماذا يحصل من حولنا من اقتتالٍ أهليٍّ ودمار، بينما نحن الدّولة المستقرّة والدّيمقراطيّة الوحيدة في الشّرق الأوسط. أمّا الملاحظات الّتي من المهمّ تسجيلها حول هذا السّياق، فيمكن إيجازها في التّالي:
* نعيش حالة انهيارٍ عربيّةٍ غير مسبوقةٍ كثافةً ومدًى؛ حروبٌ أهليّةٌ واندثار دولٍ وانشغالٌ في أزماتٍ داخليّة وانسداد أفق، وهو ما يفسّر عدم تفاعل الشّارع العربيّ مع ما يحصل في فلسطين، مقارنةً مع هبّاتٍ وانتفاضاتٍ سابقة؛ بالإضافة إلى خيبات الأمل والخوف، ربّما، لدى العربيّ من الفعل الثّوريّ والنّضاليّ، بعد سلسلة الانقلابات على ثوراته وسرقتها وحرفها عن مسارها، على أيدي مخلّفات الأنظمة الاستبداديّة، والقوى العالميّة ذات المصالح في المنطقة، والأنظمة العربيّة الدّكتاتوريّة الّتي خشيت من بلوغ الثّورات إليها.
* العالم مشغولٌ بملفّاتٍ كُبرى حاليًّا؛ مثل ملفّ اللّاجئين، وملفّ التّدخّل العسكريّ الرّوسيّ في سورية، والملفّ النّووي الإيرانيّ الّذي ما زال مفتوحاً، على الرغم من عقد الاتّفاق بين إيران والقوى العالميّة، وملفّ تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش)، وكذلك الانشغال بملفّات اقتصاديّة عديدة، لعلّ في مقدمها ملفّ اتّفاق التّبادل التّجاريّ الحرّ بين الاتّحاد الأوروبيّ والولايات المتّحدة، والّذي شهدت برلين، أخيراً، تظاهرةً ضدّه بمشاركة مئات الآلاف.
* من المرجّح أنّ المعطيات الإقليميّة والدّوليّة هذه جعلت المؤسّسة الإسرائيليّة تظنّ أنّه يمكنها فعل ما تريد، وتغيير ما تريد على أرض الواقع، أكثر ممّا تفعل يوميًّا، لا سيّما في القدس والمسجد الأقصى، وأنّه يمكنها استخدام الإجراءات التّضييقيّة التّعسّفيّة، وحجم القوّة الّذي تشاء، لقمع كلّ فعلٍ احتجاجيٍّ ضدّ سياساتها.
* ردّة فعل الفلسطينيّين على إحساسهم بالتّهديد الكبير والاستفزاز والضّغط، وإدراكهم أنّهم وحدهم، الآن، يواجهون السّياسات الاستعماريّة الاستيطانيّة الإسرائيليّة، جعلت من السّحر ينقلب على السّاحر؛ إذ وجدت المؤسّسة الإسرائيليّة نفسها، على مدار ثلاثة أسابيع، في ورطةٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وأمنيّة لم تتوقّعها أبدًا، وما زالت تتخبّط في التّعامل معها، لا سيّما أنّ المجتمع الإسرائيليّ نفسه شارك في صنعها لنفسه ولمؤسّسته، بسبب دخوله في حالة هستيريا عنيفة، نتيجة سياسات مؤسّسته الممعنة في إخافة الفلسطينيّ وترهيبه والضّغط عليه، والّتي انفجرت في وجه الإسرائيليّين أنفسهم.

وقد فاقم من ورطة إسرائيل الجفاء الكبير الّذي وجدته من حلفائها التّقليديّين، ففرنسا وأميركا وروسيا، مثلًا، جميعها أرسلت إشاراتٍ، هذا الأسبوع، فيها ما يشبه التّوبيخ واللّسع لحكومة نتنياهو؛ إذ قدّمت باريس طلباً رسميّاً بوضع المسجد الأقصى تحت رقابةٍ دوليّة، وقالت واشنطن إنّ القوّة الّتي استخدمتها إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين قد تكون مفرطة، وذهبت موسكو، عبر مندوبها في الأمم المتّحدة، إلى أنّ إسرائيل تتحمّل مسؤوليّة الأمن في القدس الشّرقيّة، كونها تحتلّها، وطلبت من الأمين العام، بان كي مون، تقديم دراسة الأمم المتّحدة لطلب الفلسطينيّين بتوفير حمايةٍ دوليّةٍ لهم.
* عدم نجاح حكومة نتنياهو في افتعال جبهة حربيّة مع غزّة، تنقل فعل المقاومة الفلسطينيّ من الأرض إلى السّماء (وتقديرنا أنّ حنكة فصائل المقاومة هناك أدّت دورًا في هذا لتجنّبها الرّدّ على الاستفزازات الإسرائيليّة) صعّبت المهمّة على حكومة نتنياهو؛ فالخيارات والتّوجّهات الإقليميّة والدّوليّة، فيما يتعلّق بجبهة غزّة، والّتي صارت متوقّعةً ومعروفةً سلفًا، غير تلك المتعلّقة بالقدس والضّفّة الغربية وأراضي 48 ومواجهات غزّة على الجدران الفاصلة المحيطة بها؛ إذ يأخذ الانتفاض، في هذه الحالة، طابعًا شعبيًّا مدنيًّا لا مسلّحًا منظّماً، حتّى وإن شمل عمليّاتٍ عُنفيّةً محدودة (عمليّات الطّعن)، والّتي تدور حول عددٍ منها أصلًا، في وسائل الإعلام ولدى المراقبين والمحلّلين، بل وعلى المستوى الأمنيّ الإسرائيليّ، تساؤلاتٌ وتشكيكاتٌ إن كانت حصلت فعلاً، أم لُفّقت إسرائيليًّا لتبرير القتل الميدانيّ.
* على الرغم من وحدة الفلسطينيّ وعزلته، إلّا أنه نجح، على مدار الأسابيع الثّلاثة الماضية، في فرض مسألة "الاحتلال" و"الاستيطان" و"القدس والأقصى" و"الحلّ النّهائيّ" مجدّدًا على الأجندة الدّوليّة، على الرغم من كلّ الانشغالات بالملفّات الكُبرى، بعد نسيانٍ وتهميشٍ استمرّ سنين طوال، تتحمّل قسطاً كبيراً منه القيادات الفلسطينيّة الرّسميّة، لفشلها في إدارة الصّراع ضد الاستعمار؛ وهو نجاحٌ نوعيٌّ في زمن الأفق المسدود والرّكود، والّذي جعلنا نظنّ أنّه من الاستحالة في الظرّوف الرّاهنة تغيير الوضع القائم. لا بل إنّ الفلسطينيّ نجح في فرض قضيّة الاحتلال بقوّة على الأجندة الإسرائيليّة، فنحن، منذ زمنٍ بعيدٍ، لم نسمع كلاماً جديّاً في الشّارع الإسرائيليّ عن هذه القضيّة، وكأنّها حُسِمت وصارت هامشيّةً بالنّسبة له، لصالح قضايا أخرى، في مقدمها الاقتصاد، إلى درجة أنّ حضورها في الانتخابات الإسرائيليّة، في مارس/آذار الماضي، كان باهتًا جدًّا.
* ليس بالضّرورة أن يكون السّياق الإقليميّ والدّوليّ في غير صالح الفلسطينيّين وانتفاضتهم الوليدة، على عكس ما يُظنّ، فانشغال القوى العالميّة والإقليميّة بملفّاتٍ كُبرى عديدة، في الوقت نفسه، قد يسمح لهذه الانتفاضة بالتّشكّل بعيدًا عن العبث، لا سيّما من مصر ومجلس التّعاون الخليجيّ الّذي تقوده السّعوديّة، مصدرا التّدخّل التّقليديّين في القضايا العربيّة، وتحديدًا الفلسطينيّة، وهو ما قد يسمح لمرحلةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ بالولادة بصفاءٍ ونقاوةٍ أكبر؛ علماً أنّ الانتفاضتين، الأولى والثّانية، تشكّلتا في ظروفٍ لا تختلف كثيراً عن الظّروف الحاليّة، من حيث الانشغال الإقليميّ والدّوليّ، فالحرب الإيرانيّة العراقيّة وحرب المخيّمات في لبنان وانهيار الاتّحاد السّوفييتي وغزو العراق الأوّل، جميعها أحداثٌ كُبرى رافقت ولادة الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى ونشأتها، كما أنّ تحرير الجنوب اللّبنانيّ واستهداف "القاعدة" الولايات المتّحدة وغزو أفغانستان والعراق أحداثٌ كُبرى رافقت ولادة الانتفاضة الثّانية وتشكلها.
* ما قد يخسره فعل الانتفاض الفلسطينيّ الآنيّ بشكلٍ كبير، هو ألّا يجد اهتمامًا ومؤازرةً كبيرين من شعوب العالم، فتشكّل ضغطاً على حكوماتها وعلى إسرائيل، يكبح جماح قمع الأخيرة وإيغالها في اضطهاد الفلسطينيّين؛ أي خسارةٌ على مستوى الرّأي العام. لكن، يمكن للفلسطينيّين تجاوز هذه المسألة، إن نظّموا صفوفهم في أنحاء العالم، بالتّواصل مع مناصريهم بكثافة وتشكيل مجموعات ضغط، وعملوا بمهنيّةٍ إعلاميّةٍ لمخاطبة الرّأي العام العالميّ.

658F0B2E-0931-4260-B45E-FCFB81D65C1C
علي مواسي

كاتبٌ وناشطٌ سياسيٌّ فلسطيني