22 سبتمبر 2024
انتفاضة السودان.. تعقيدات داخلية واستقطاب خارجي
بعد احتجاجاتٍ استمرت نحو أربعة أشهر، استجاب الجيش السوداني لمطالب المحتجين بالتخلي عن الرئيس عمر حسن البشير وعزله. ولكن انقلاب القصر الذي نفذه نائب البشير ووزير دفاعه، الفريق أول عوض بن عوف، صبيحة الخميس 11 نيسان/ أبريل 2019، لم يلقَ الترحيب الذي كان متوقعًا، فابن عوف يُعدّ من أبرز أركان نظام البشير، ويحمّله المتظاهرون مسؤولية انتهاكاتٍ كثيرة. كما أنه ظل يراهن على إمكانية قمع الحراك الشعبي، حتى بعد أن اتضح أن كفّته أخذت ترجّح على كفة النظام، معلنًا أن الجيش سيقف إلى جانب الرئيس البشير حتى النهاية. وقد قوبل بيان ابن عوف، منذ الوهلة الأولى، برفضٍ جماهيريٍّ قاطعٍ، على الرغم أنه نص على فترة انتقالية مدتها عامان، وعلى حل المجلس الوطني، وإبعاد حكّام الولايات التابعين للحزب الحاكم، وتعيين عسكريين بدلًا منهم، فقد تجاهل خطاب ابن عوف مطلب الثوار الرئيس، المتمثل في تفكيك بنية النظام القديم، وإقامة نظام مدني ديمقراطي. ومن أبرز ما قاد إلى رفض الخطاب إعلانه تعليق العمل بالدستور، وفرضه حظر التجوال؛ ما أثار الشكوك بأنه تمهيد لفض الاعتصام بالقوة.
رفض شعبي
نتيجة الرفض الشعبي لبيان ابن عوف، عقد المجلس العسكري، في أقل من 24 ساعة من إعلانه عزل الرئيس البشير، مؤتمرًا صحافيًا صبيحة الجمعة 12 نيسان/ أبريل 2019، حاول خلاله تخفيف الغضب الشعبي وتقديم بعض التنازلات. وكان لافتًا عدم ظهور ابن عوف في هذا المؤتمر الصحافي؛ إذ ظهر بدلًا منه عضو المجلس الانتقالي العسكري، الفريق أول عمر زين العابدين، الذي بدا حرصه واضحًا على تأكيد أن الجيش ما جاء ليحكم، بل يريد إسناد السلطة إلى حكومة من المدنيين، غير أن تصريحات زين العابدين قوبلت، هي الأخرى، بالرفض الشعبي؛ إذ لم يشر إلى إجراءات بحق رموز النظام السابق، ولا إلى نية التحقيق في قضايا الفساد واسترداد الأموال المنهوبة. وأكثر ما جعل خطاب زين العابدين عرضةً للانتقاد والرفض إشارته إلى أن رئيس جهاز المخابرات الوطني، في عهد الرئيس البشير، الفريق صلاح قوش، لا يزال عضوًا في اللجنة الأمنية التي وقفت وراء انقلاب ابن عوف.
قاد الرفض الشعبي لما ورد في المؤتمر الصحافي الذي عقده زين العابدين إلى مسارعة القيادات العسكرية إلى القيام بخطوة جديدة، تستعيد من خلالها ثقة الشعب، فقد ظهر ابن عوف مساء اليوم نفسه ليعلن عن تخلِّيه عن قيادة المجلس العسكري، وتعيين الفريق عبد الفتاح
البرهان الذي كان يشغل منصب المفتش العام للقوات المسلحة، رئيسًا للمجلس العسكري، بدلاً منه. كما أعفى ابن عوف نائبَه في المجلس، الفريق كمال عبد المعروف، رئيس هيئة الأركان السابق، من منصبه. وفي ردة فعل تلقائيّة، قابل الجمهور الخطوة بارتياح كبير. وظهر عبد الفتاح البرهان، بعد فترة ترقب استمرت من مساء الجمعة، وحتى منتصف نهار السبت 13 نيسان/ أبريل 2019، ليعلن عن المجلس العسكري في تركيبته الجديدة، وقال إن المجلس سيشكل حكومةً مدنيةً، تكون على رأسها شخصية مستقلة. وكان لافتًا في التشكيل الجديد للمجلس العسكري، حصول الفريق محمد حمدان دقلو، قائد مليشيا الدعم السريع، المشهور، بـ "حميدتي"، على منصب نائب رئيس المجلس العسكري؛ ما يفيد بأن الثقل العسكري قد أصبح، على أقل تقدير مقسمًا، مناصفةً، بين مؤسسة الجيش ومليشيا قوات الدعم السريع.
موقف القوى السياسية
في الجهة الأخرى من المشهد، ظلت القوى المعارضة، المكوِّنة ما يسمّى "إعلان الحرية والتغيير"، والتي يمثل "تجمع المهنيين" عنصرًا مهمًا فيها، على موقفها أن المجلس العسكري، حتى بعد أن آلت رئاسته إلى عبد الرحمن البرهان، لم يسر في اتجاه تلبية مطالب المحتجين، كما ينبغي، فالقوى الحزبية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، وهي تجمع المهنيين، وبعض الأحزاب السياسية، إضافة إلى بعض قوى وشخصيات المجتمع المدني، ترى ضرورة الشروع، في الحال، في تشكيل حكومة مدنية، وإنشاء مجلس سيادة مدني، على أن ينحصر دور الجيش في رعاية الفترة الانتقالية، وألا تُسند إليه في التشكيل الوزاري الانتقالي سوى وزارة الدفاع، مع حصوله على ممثل واحد في مجلس السيادة الانتقالي.
وتحت ضغط الشارع وضغط القوى المعارضة، إضافة إلى ضغط المجتمع الدولي، أخذ المجلس يسير نحو اتخاذ مزيدٍ من الخطوات التي يبدو أنها لاقت استجابة لدى قطاع من الجمهور؛ الأمر الذي انعكس في تناقص أعداد المعتصمين، لكن هذه الإجراءات لم تكن كافيةً بالنسبة إلى القوى السياسية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير. كما لم تُرضِ كثيرين من الشباب المعتصمين الذين يشكِّلون القوة الرئيسة التي أحدثت التغيير. وتمثلت الخطوات التي أرضت قطاعًا من الجمهور، ولا تراها قوى التغيير كافية، في: إعفاء صلاح قوش من رئاسة جهاز المخابرات، والإعلان عن ترتيباتٍ جديدةٍ لهيكلة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وإقالة ابن عوف من منصب وزير الدفاع وإحالته إلى التقاعد. كما تضمنت هذه الخطوات رفع حالة الطوارئ، وإلغاء أمر حظر التجوال، والإعلان عن عدم نية السلطات فض الاعتصام المفتوح عن طريق القوة. كما ورد فيها إلغاء القوانين المقيدة للحريات، واستبعاد حزب المؤتمر الوطني (الحاكم سابقا) من المشاركة في الحكومة المدنية التي سوف تدير الفترة الانتقالية. وتضمنت تشكيل لجنة لاستلام أصول حزب المؤتمر الوطني، وإعادة هيكلة مفوضية مكافحة الفساد، وتوجيهها إلى مباشرة عملها فورًا، إضافةً إلى الإعلان عن التحفظ على قادة في النظام السابق المتورّطين في الفساد. وشملت القرارات إعفاء سفير السودان لدى مفوضية حقوق الإنسان في جنيف، وسفير السودان لدى واشنطن، من منصبيهما. وكان آخر القرارات التي صدرت من المجلس العسكري إعفاء رئيس القضاء، والنائب العام، والمدير العام للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، في فترة حكم الرئيس البشير، من مناصبهم.
مخاوف وشكوك
تزايد التعقيد في المشهد السياسي السوداني، بصورةٍ لافتة، منذ بداية الاعتصام الذي أطلقه
المحتجون في 6 نيسان/ أبريل 2019، في ذكرى الثورة التي أطاحت نظام جعفر النميري عام 1985، فالثورة التي استجارت بالجيش من بطش نظام الإنقاذ، وهو خيارٌ لم يكن في وسعها تجنبه؛ لأنه لم يكن ممكنًا حسم المعركة مع البشير من دون الجيش، منحته، شاءت أم أبت، حقًا مكتسبًا في تقرير مسار الأحداث، خصوصا أن الجيش في وضعه الراهن لم يعد ذاك الجيش المهني المحترف الذي سبق أن انحاز إلى ثوار تشرين الأول/ أكتوبر 1964، ونيسان/ أبريل 1985. يضاف إلى ذلك أن الرئيس البشير عمل على إضعاف هذا الجيش، بإنشاء مليشيات قوية التسليح، ضخمة العدد، تعمل قوةً موازية له. ولعل ما يكشف ضعف الجيش، حاليًا، وصول قائد مليشيا الدعم السريع، الفريق دقلو، إلى منصب نائب رئيس المجلس العسكري الذي سوف يتولى، مع الحكومة المدنية، إدارة الفترة الانتقالية. يبقى دقلو محاطًا بعدد من الإشكالات، بسبب علاقاته الخارجية والأدوار التي يؤديها، على الرغم من أنه انحاز إلى جانب الثوار، وأبعد عنهم خطر مليشيات النظام، فهو الشخص الذي تشارك وحدات من قواته إلى جانب التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات في اليمن. وكان لافتًا إعلان المجلس العسكري، ممثلًا برئيسه الفريق البرهان، التزامه اتفاقية مشاركة الجنود السودانيين في حرب اليمن، على الرغم من المعارضة الشعبية المتزايدة لهذا الأمر.
يضاف إلى ما تقدّم، راجت شائعات أن الفريق طه عثمان، مدير مكاتب الرئيس البشير السابق، والذي أصبح مستشارًا في البلاط السعودي ومُنح الجنسية السعودية، قد وصل إلى الخرطوم، عقب تولي الفريق البرهان رئاسة المجلس الانتقالي العسكري، صحبة وفد إماراتي. وهو الأمر الذي أخذ يلقي ظلالًا من الشك على توجهات الانقلاب، وعلى علاقة منفّذيه بالمحور السعودي - الإماراتي. أما في البعد الدولي، فقد ظهر الفريق دقلو، قائد مليشيا الدعم السريع، في وسائط الإعلام، في الأيام القليلة الماضية، وهو يستقبل القائم بالأعمال الأميركي، والسفير الهولندي،
وممثل الاتحاد الأوروبي. وتؤكد الأدوار التي اضطلع بها الفريق دقلو والمليشيا التابعة له، أن سبب الاهتمام الزائد الذي يوليه سفراء الدول الغربية، خصوصا الاتحاد الأوروبي، يعود إلى ما ظل يقوم به الرجل من دور في مراقبة خطوط عبور المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا عبر الأراضي السودانية. وبدا لافتًا إعلان واشنطن استعدادها لرفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، إذا أجرى المجلس العسكري تغييراتٍ "حقيقية"، وجرى التأكد من خلو تركيبته من أي أشخاصٍ موضوعين على قوائم الإرهاب الأميركية، أو مطلوبين في جرائم الحرب الدولية. أما قوى الشباب الذين وقفوا بقوة وراء تجمع المهنيين، فتثور لديهم شكوك في القوى الحزبية وقوى المعارضة التقليدية التي يمكن أن تختطف ثورتهم؛ لذلك تمت دعوةٌ إلى تكوين حزب جديد للشباب يمثل تطلعاتهم ومطالبهم.
العلاقة الواضحة بين محور الإمارات والسعودية وبعض عناصر المجلس العسكري في السودان تنذر بتكرار تجربة المجلس العسكري المصري؛ لناحية استغلال حاجة الثورة إليه لحسم مصير رأس النظام، من أجل الانقلاب على مطالب الثورة الأساسية. ولذا، من الأهمية القصوى التوافق السياسي على قضية الديمقراطية، ما دامت الشرعية الثورية قائمة، ويمكن فرضها على الجيش من دون مواجهة، بل ضمن تسويةٍ معه تضمن دوره. لا شك في أن القوى الإقليمية وبعض القوى الدولية معنية بنظام عسكري في السودان، لكنها غير قادرة على منع الديمقراطية في حالة الإصرار الشعبي عليها.
خلاصة
تكتنف المشهد السوداني الراهن تقاطعاتٌ كثيرة، فالثورة مهدّدة من الدولة العميقة، ذات الأذرع العديدة؛ المدنية والعسكرية. كما هي مهدّدة أيضًا من أطراف في النظام الإقليمي العربي. يضاف إلى ما تقدم أن الرئيس البشير سبق أن قدم لروسيا في زيارته لها، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، إغراءاتٍ كبيرة تتعلق بالثروة المعدنية في السودان؛ الأمر الذي ربما جعل موسكو طرفًا في تعقيدات الموقف السوداني الراهن.
ويبقى العنصر الحاسم في مسار انتصار الثورة، واستقرار السودان، ورجوعه إلى الحياة المدنية والممارسة الديمقراطية، رهينًا بصمود الشباب في ساحات الاعتصام، وقدرتهم على استدامة الضغط نفسه الذي أجبر العسكريين على عزل الرئيس البشير، فلو استمرت الحشود في الاعتصام، وبالقوة السابقة نفسها، ستصل الثورة إلى مبتغاها، متخطيةً كل محاولات الالتفاف عليها من مجموعة الفاعلين الداخليين والخارجيين. أما الشرط الثاني، فهو اتفاق القوى والأحزاب السياسية على برنامج انتقال إلى الديمقراطية، بما في ذلك حجم التأثير المقبول للعسكر في مرحلة الانتقال؛ إذ لا يمكن تغييب دورهم تمامًا. ولكن من الممكن، من خلال ضغط الشارع، تحقيق إنجازات بشأن حجم هذا الدور وتعهد الجيش بقبول نظام الحكم الديمقراطي التعدّدي.
رفض شعبي
نتيجة الرفض الشعبي لبيان ابن عوف، عقد المجلس العسكري، في أقل من 24 ساعة من إعلانه عزل الرئيس البشير، مؤتمرًا صحافيًا صبيحة الجمعة 12 نيسان/ أبريل 2019، حاول خلاله تخفيف الغضب الشعبي وتقديم بعض التنازلات. وكان لافتًا عدم ظهور ابن عوف في هذا المؤتمر الصحافي؛ إذ ظهر بدلًا منه عضو المجلس الانتقالي العسكري، الفريق أول عمر زين العابدين، الذي بدا حرصه واضحًا على تأكيد أن الجيش ما جاء ليحكم، بل يريد إسناد السلطة إلى حكومة من المدنيين، غير أن تصريحات زين العابدين قوبلت، هي الأخرى، بالرفض الشعبي؛ إذ لم يشر إلى إجراءات بحق رموز النظام السابق، ولا إلى نية التحقيق في قضايا الفساد واسترداد الأموال المنهوبة. وأكثر ما جعل خطاب زين العابدين عرضةً للانتقاد والرفض إشارته إلى أن رئيس جهاز المخابرات الوطني، في عهد الرئيس البشير، الفريق صلاح قوش، لا يزال عضوًا في اللجنة الأمنية التي وقفت وراء انقلاب ابن عوف.
قاد الرفض الشعبي لما ورد في المؤتمر الصحافي الذي عقده زين العابدين إلى مسارعة القيادات العسكرية إلى القيام بخطوة جديدة، تستعيد من خلالها ثقة الشعب، فقد ظهر ابن عوف مساء اليوم نفسه ليعلن عن تخلِّيه عن قيادة المجلس العسكري، وتعيين الفريق عبد الفتاح
موقف القوى السياسية
في الجهة الأخرى من المشهد، ظلت القوى المعارضة، المكوِّنة ما يسمّى "إعلان الحرية والتغيير"، والتي يمثل "تجمع المهنيين" عنصرًا مهمًا فيها، على موقفها أن المجلس العسكري، حتى بعد أن آلت رئاسته إلى عبد الرحمن البرهان، لم يسر في اتجاه تلبية مطالب المحتجين، كما ينبغي، فالقوى الحزبية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، وهي تجمع المهنيين، وبعض الأحزاب السياسية، إضافة إلى بعض قوى وشخصيات المجتمع المدني، ترى ضرورة الشروع، في الحال، في تشكيل حكومة مدنية، وإنشاء مجلس سيادة مدني، على أن ينحصر دور الجيش في رعاية الفترة الانتقالية، وألا تُسند إليه في التشكيل الوزاري الانتقالي سوى وزارة الدفاع، مع حصوله على ممثل واحد في مجلس السيادة الانتقالي.
وتحت ضغط الشارع وضغط القوى المعارضة، إضافة إلى ضغط المجتمع الدولي، أخذ المجلس يسير نحو اتخاذ مزيدٍ من الخطوات التي يبدو أنها لاقت استجابة لدى قطاع من الجمهور؛ الأمر الذي انعكس في تناقص أعداد المعتصمين، لكن هذه الإجراءات لم تكن كافيةً بالنسبة إلى القوى السياسية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير. كما لم تُرضِ كثيرين من الشباب المعتصمين الذين يشكِّلون القوة الرئيسة التي أحدثت التغيير. وتمثلت الخطوات التي أرضت قطاعًا من الجمهور، ولا تراها قوى التغيير كافية، في: إعفاء صلاح قوش من رئاسة جهاز المخابرات، والإعلان عن ترتيباتٍ جديدةٍ لهيكلة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وإقالة ابن عوف من منصب وزير الدفاع وإحالته إلى التقاعد. كما تضمنت هذه الخطوات رفع حالة الطوارئ، وإلغاء أمر حظر التجوال، والإعلان عن عدم نية السلطات فض الاعتصام المفتوح عن طريق القوة. كما ورد فيها إلغاء القوانين المقيدة للحريات، واستبعاد حزب المؤتمر الوطني (الحاكم سابقا) من المشاركة في الحكومة المدنية التي سوف تدير الفترة الانتقالية. وتضمنت تشكيل لجنة لاستلام أصول حزب المؤتمر الوطني، وإعادة هيكلة مفوضية مكافحة الفساد، وتوجيهها إلى مباشرة عملها فورًا، إضافةً إلى الإعلان عن التحفظ على قادة في النظام السابق المتورّطين في الفساد. وشملت القرارات إعفاء سفير السودان لدى مفوضية حقوق الإنسان في جنيف، وسفير السودان لدى واشنطن، من منصبيهما. وكان آخر القرارات التي صدرت من المجلس العسكري إعفاء رئيس القضاء، والنائب العام، والمدير العام للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، في فترة حكم الرئيس البشير، من مناصبهم.
مخاوف وشكوك
تزايد التعقيد في المشهد السياسي السوداني، بصورةٍ لافتة، منذ بداية الاعتصام الذي أطلقه
يضاف إلى ما تقدّم، راجت شائعات أن الفريق طه عثمان، مدير مكاتب الرئيس البشير السابق، والذي أصبح مستشارًا في البلاط السعودي ومُنح الجنسية السعودية، قد وصل إلى الخرطوم، عقب تولي الفريق البرهان رئاسة المجلس الانتقالي العسكري، صحبة وفد إماراتي. وهو الأمر الذي أخذ يلقي ظلالًا من الشك على توجهات الانقلاب، وعلى علاقة منفّذيه بالمحور السعودي - الإماراتي. أما في البعد الدولي، فقد ظهر الفريق دقلو، قائد مليشيا الدعم السريع، في وسائط الإعلام، في الأيام القليلة الماضية، وهو يستقبل القائم بالأعمال الأميركي، والسفير الهولندي،
العلاقة الواضحة بين محور الإمارات والسعودية وبعض عناصر المجلس العسكري في السودان تنذر بتكرار تجربة المجلس العسكري المصري؛ لناحية استغلال حاجة الثورة إليه لحسم مصير رأس النظام، من أجل الانقلاب على مطالب الثورة الأساسية. ولذا، من الأهمية القصوى التوافق السياسي على قضية الديمقراطية، ما دامت الشرعية الثورية قائمة، ويمكن فرضها على الجيش من دون مواجهة، بل ضمن تسويةٍ معه تضمن دوره. لا شك في أن القوى الإقليمية وبعض القوى الدولية معنية بنظام عسكري في السودان، لكنها غير قادرة على منع الديمقراطية في حالة الإصرار الشعبي عليها.
خلاصة
تكتنف المشهد السوداني الراهن تقاطعاتٌ كثيرة، فالثورة مهدّدة من الدولة العميقة، ذات الأذرع العديدة؛ المدنية والعسكرية. كما هي مهدّدة أيضًا من أطراف في النظام الإقليمي العربي. يضاف إلى ما تقدم أن الرئيس البشير سبق أن قدم لروسيا في زيارته لها، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، إغراءاتٍ كبيرة تتعلق بالثروة المعدنية في السودان؛ الأمر الذي ربما جعل موسكو طرفًا في تعقيدات الموقف السوداني الراهن.
ويبقى العنصر الحاسم في مسار انتصار الثورة، واستقرار السودان، ورجوعه إلى الحياة المدنية والممارسة الديمقراطية، رهينًا بصمود الشباب في ساحات الاعتصام، وقدرتهم على استدامة الضغط نفسه الذي أجبر العسكريين على عزل الرئيس البشير، فلو استمرت الحشود في الاعتصام، وبالقوة السابقة نفسها، ستصل الثورة إلى مبتغاها، متخطيةً كل محاولات الالتفاف عليها من مجموعة الفاعلين الداخليين والخارجيين. أما الشرط الثاني، فهو اتفاق القوى والأحزاب السياسية على برنامج انتقال إلى الديمقراطية، بما في ذلك حجم التأثير المقبول للعسكر في مرحلة الانتقال؛ إذ لا يمكن تغييب دورهم تمامًا. ولكن من الممكن، من خلال ضغط الشارع، تحقيق إنجازات بشأن حجم هذا الدور وتعهد الجيش بقبول نظام الحكم الديمقراطي التعدّدي.