انتخابات التشيك... تأثير شعبوي آخر في القارة العجوز

انتخابات التشيك... تأثير شعبوي آخر في القارة العجوز

27 يناير 2018
المرشحان الرئاسيان ميلوش زيمان وييري دراهوش (Getty)
+ الخط -




بغض النظر عمّا تنتجه صناديق الاقتراع في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في جمهورية التشيك، بين الرئيس الشعبوي القومي، المعادي للجوء والهجرة والاتحاد الأوروبي، المثير للجدل، ميلوش زيمان (73 سنة)، ومنافسه الأكاديمي المؤيد للتوجه أوروبياً، والمتعهد بالعمل ضد "الشعوبية في المجتمع التشيكي"، ييري دراهوش، فإن هذه الانتخابات تعيد المشهد الأوروبي الشعبوي إلى الواجهة مرة أخرى، بكل مؤثراته على جل المشروع الاتحادي، المتعرض لهزات مستمرة منذ بات الشعبويون لاعبين لا يمكن إنكار وجودهم.

على الجانب الآخر تكشف "ديمقراطية الكتلة الشرقية" أن روسيا استعاضت لترسيخ نفوذها ومصالحها، التي تسبب بخسارتها الروس بأنفسهم من خلال سياسات الحزب الشيوعي الحاكم فترة انتهاج "الغلاسنوست" و"البيروسترويكا"، في حديقتها الخلفية الدبابات، إن باتجاه بودابست، أو براغ لقمع ربيعها، بتأثيرات أخرى. فخصوم موسكو، في فضائها الغربي، لم يتراجعوا عن اتهامها بالتدخل لإيصال رجالاتها إلى سدة الحكم.

وتبدو مفارقة "الشيوعي السابق"، كوصف غربي لقادة يدورون في فلك الكرملين، كأمثال فيكتور أوربان في المجر ومليوش في تشيكيا، وغيرهما، وكأنها صارت لصيقة بإنتاج الشعبوية المتطرفة في هذه الدول.

ويكشف الإمعان الدقيق في مجريات التحول الشرق أوروبي نحو اليمين القومي المتطرف، ومن بينها هذه التي تشهدها براغ، أن توسع القارة العجوز، بعيد انهيار جدار برلين، أنتج "صداعاً" لم يتوقف، وهو الوصف المخفف لتأزم علاقة بروكسل، كمعبر عن الاتحاد الأوروبي، وكل من بولندا وبلغاريا ورومانيا، وتشدد المجر والتشيك في قضايا مثل تطبيق الالتزامات في سياسة الهجرة واللجوء.

هذا "الصداع"، في علاقة الغرب بموسكو، عدا عن شؤون تتعلق بمعايير الاتحاد التي تتهرب منها وارسو وبوخارست، حول الحريات وفصل السلطات والالتزام بتطبيق الإصلاحات المستمرة منذ سنوات طويلة، يبدو هو الأكثر بروزاً في مسار القلق الأوروبي من شيوع خطاب شوفيني قومي يتجه أكثر فأكثر نحو الكرملين.

ولا يبدو أن بروكسل سعيدة جداً أن يذهب رئيس جمهورية التشيك، ميلوش زيمان، إلى موسكو، قبيل هذه الانتخابات(آخرها في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم)، ليطلق منها تصريحات تنتقد وبشدة سياسة معسكره (الاتحاد الأوروبي) بفرض عقوبات على روسيا، بحضرة رئيسها، فلاديمير بوتين، المبتسم والسعيد بـ"الشيوعيين السابقين" و"الشعبويين الحاليين"، وهم يدافعون عن ابتلاعه لشبه جزيرة القرم في 2014، وحشده في شرق أوكرانيا دعماً لانفصاليين، وتذويب مخاوف الغرب من سياسات الرجل المندفعة في البلطيق وبعض أجزاء اسكندنافيا، ومنافسته العنيدة في الشرق الأوسط وسحب بساط النفوذ الغربي، بالتعاون مع بكين، في آسيا.

زيارة الرئيس التشيكي تلك إلى موسكو أغاظت الأوروبيين الغربيين، في وجهها الاقتصادي على الأقل. فزيمان لم يغادر وحده، بل بوفد ضخم من 140 شخصاً ومن شركات عدة، على عكس زيارته إلى باريس، حيث رافقه 14 شخصاً من المقاولين.

إذا، هي رسالة، ومؤشر، واضحان من السبعيني زيمان، الذي فاجأ صحافيي بلده، بحسب روسيا اليوم، بأنه لا حاجة للمترجمين، "فعلى الصحافيين التشيك أن يجيدوا الروسية"، حول من هو الأهم بالنسبة لبلده.

توقع كثيرون من مراقبي الشأن السياسي في شرق أوروبا في الغرب أن يهزم ميلوش زيمان، منافسه الأكاديمي الليبرالي، ييري دراهوش. فالأخير صاحب ميول أوروبية محافظة، يرى أن مستقبل بلده الطبيعي إلى الغرب بمزيد من الانفتاح والتعاون مع بروكسل. جرب التشيكيون سياسة الاتجاه شرقاً نحو موسكو منذ أن اعتلى زيمان كرسي الرئاسة في 2013 بنحو 56 في المائة من الأصوات أمام خسارة منافسه، وزير الخارجية الأسبق المحافظ كارل شوارنسبيرغ.

لا ينظر في الغرب إلى وصول الشعبويين إلى الحكم، خلال السنوات الماضية، باعتباره "خياراً ديمقراطياً" فحسب، بل أمر معقد يفرمل كثيراً من مشاريعهم، وهو ما انطبق أيضاً على سلوفاكيا التي ضربت بعرض حائط شعبوي قبول أي لاجئ ممن قرر الاتحاد الأوروبي توزيعهم بين دوله منذ نحو 3 سنوات، وهو أمر ينسحب على دول عدة في شرق ووسط القارة العجوز.

إن بعض الغربيين، وبينهم صحافيون ومختصون في شؤون شرق أوروبا منذ الحقبة السوفييتية، يرون أنه "لا مبالغة في وصف هذا النوع من السياسيين بترامبيي أوروبا". فميلوش زيمان يعامل صحافيي ومثقفي بلده بإهانة واستخفاف وتهكم لغوي قاس جداً.

في سياسة هذا النوع من الشعبويين في شرق القارة، وبغياب فصل واضح بين السلطات، لا يبدو أن هناك من يحاسب جدياً تفوهات تقول بوضوح "لن نقبل أي لاجئ من هذا النوع (مسلمين)، لأننا استقبلنا في التسعينات كفاية منهم أيام حرب البلقان"، فأغلقت حدودها تماماً، بل شكلت ما يشبه مليشيات حدودية لملاحقة "الغزاة" من اللاجئين، وهو وصف توافق فيه زيمان في 2015 مع زميله أوربان في المجر بالقول "نحن في التشيك نواجه غزواً منظماً"، فيما منافسه العالم الكيميائي دراهوش يقول "علينا استعادة الاحترام والكرامة في التشيك". خطابان لا يبدو أن هناك من جامع بينهما.

وصف المساعد السابق للرئيس التشيكي الأسبق، فاكلاف هافل، ييري بيها لسياسات زيمان يختصر أيضاً كيف يفكر العقل الشعبوي الأوروبي اليوم. فالرجل قال قبل حسم نتيجة الانتخابات الحالية، إن ما يجري هو "انتخاب لاستمرار تقسيم المجتمع، وإذا استمر زيمان خمسة أعوام أخرى فسنكون أمام استمرارية للطريقة الاستفزازية التي تقود لمزيد من الاستقطاب وأخذ السياسية التشيكية بعيداً عن أوروبا، نحو روسيا والصين"، مستشهداً بحديث زيمان بنفسه عن الأمر في مؤتمر للحزب اليميني المتطرف "الحرية والديمقراطية المباشرة".

يبدو من الواضح، أننا أمام أوروبا متكتلة، شرقاً وغرباً، وفي الأولى تذهب جمهورية التشيك نحو بولندا والمجر، وغيرها ممن تقبل السير معهم، لتواجه غرباً ليبرالياً تتضح في دوله مسائل العقد الاجتماعي وفصل السلطات.

الواقع أيضاً، يقول بوضوح أن الشعبويين وضعوا أيضاً، خطة حتى لو لم يصل زيمان مرة أخرى 5 سنوات للحكم، فقد طور هؤلاء "الدولة العميقة" بوجود جماعات المصالح وانتشار الفساد والمحسوبيات، من أمثال رئيس وزراء حليف، المتهم اليوم بالاختلاس، كأندري بابيس، الذي يشبهه كثيرون بدونالد ترامب ورئيس وزراء إيطاليا الأسبق سيلفيو بيرلسكوني.

صحيح أن الرؤساء في جمهورية التشيك وغيرها من هذه الدول ليس كما هو في النظام الرئاسي الغربي من حيث التأثير، لكنهم أيضاً، ليسوا رؤساء رمزيين كما في ألمانيا والنمسا. ويستطيع زيمان أن يعيد تسمية بابيس لتشكيل حكومة، هي مراهنة لعب عليها هذا المعسكر، سواء خسر أم ربح، طالما أن زيمان باق حتى الثامن من مارس/آذار القادم.

ومن يعود إلى براغ في تسعينيات القرن الماضي، بوجود رؤساء مثل الروائي والأديب فاتسلاف هافل، يمكنه أن يستشف البصمة التي يتركها رؤساء تلك الدول في مجتمعاتهم، فعلى عكس ما شكله هؤلاء في الأدب والنظرة الإنسانية والكفاح لأجل توازن اقتصادي وبيئي في المجتمع، يلاحظ في السنوات الأخيرة كيف بات الشعبويون، المتحالفون مع موسكو، والخارجون من "رحم الشيوعية السابقة"، يبثون الكراهية وخطابات عنصرية بحق الآخرين، على طريقة دونالد ترامب عن "حفر القذارة".

ينتظر الأوروبيون، نتيجة التصويت النهائية، مساء السبت، وهم يدركون بقرارة أنفسهم أن أوروبا التي حلموا بها منذ سقوط جدار برلين ربما تتحول، على الأقل في جزء منها، إلى كابوس عليها وعلى مستقبلها.