اليمن والعصبية

اليمن والعصبية

29 يونيو 2019
+ الخط -
أخوض معركتي مع عقلية الماضي، وأنا مسلح بكل تجارب ذلك الماضي ودروسه، لا أنكر أني يوما كنت اشتراكيا متعصبا لإيديولوجيتي، مشحونا بالحماسة، ألقي كل اللوم على من يخالف إيديولوجيتي، وهذه طبيعة الإنسان المتعصب للإيديولوجيا التي تغيّب عقله، فيعجز عن التفكير والاستنباط والاستنتاج خارجها.
كنت جزءا من الفشل الذي يرمي اللوم على غيره في كل ما يصيبه من أزمات ومصائب، ويطلق السهام على الآخرين بتفكير محدود، فعندما خضنا تجربة الديمقراطية والانتخابات وتحالف اللقاء المشترك وأفكار المناضل، جار الله عمر ورفاقه، عندما اقتربنا كثيرا من الآخر والمختلف عنا، تحاورنا وخضنا معا معركة التغيير، تمّ صقل الأفكار وتوسعت المدارك، وصار الوعي متفهما للواقع والمطلوب والآخر إنسانا شريكا في الحياة.
لا نحتاج شهادات ورقية من دون وعي وتجربة، اليوم صارت الشهادات الورقية في حوزة كثيرين، لكن هل غيّرت منهم وصقلت أفكارهم؟ كثيرون منهم، للأسف، لا يستوعب غير قناعاته وأحلامه فقط، لا يستطيع أن يستوعب حق الآخر كإنسان له ما له وعليه ما عليه، وأن تكون له قناعات واختيارات ومشاريع وتوجهات وأحزاب ومكونات تنظم أفكاره وتبلورها على الواقع. يحلم الآخر كما نحلم ويتطلع كما نتطلع، ومن الغباء أن نصف كل مغاير بخائن ومتآمر وعميل، وها هو الزمن يكشف الستار عن حقيقة التحالفات الداخلية والخارجية، حيث تتميز تحالفات العمالة بطابع التبعية، عندما يفقد فيها الطرف المحلي الإرادة ويتحول إلى مجرد أداة مسلوبة، تنفذ أجندات مضرّة بالصالح العام والوطن.
اليوم الواقع محتقن، والتعصب على أشده، والمعارك تأخذ طابعا إيديولوجيا ومناطقيا وطائفيا، ولدى مثل هؤلاء المبررات السخيفة، لديهم وصفات جاهزة أعدها لهم المغرض، يديرهم عن بعد من خلالها، شوّه أفكارهم وقناعاتهم أن الديمقراطية غير مجدية في مجتمعاتنا، وأنّ بنيتها الأساسية (الأحزاب) أساس المشكلة، انتزع منهم أفكار الحل، ليبقيهم في دوامة المشكلة التي تنتج مزيدا من المشكلات، تركوا معركتهم الوطنية، ليفتحوا معارك جانبية مع المختلف، وشخصيات ونافذين. وقد يكون هؤلاء والتطرف السياسي والديني أساس المشكلة، ولكن الحل لا يمكن أن يكون بنفوذ وتطرف مقابلين، فالحل المجدي يكون في ترسيخ دولة ونظام وقانون وقضاء عادل وأمن محترم، يحقق العدل والإنصاف، وعندما نرسي العدل يكون كل هؤلاء تحت طائلة العقاب والحساب.
اليوم، هناك تطرف وعصبية وإرهاب يحارب تطرّفا وعصبية وإرهابا مقابلا، فلا نرى غير كم هائل من الإشاعات والترويج والتدليس والمنشورات والمقالات التي تحكي عن مؤامراتٍ في أذهان المتطرفين الغارقين في ماضيهم، والمنشغلين في ثاراتهم، فغابت العقلانية والمنطق لتتيح مجالا واسعا لقوى التأزيم لتزج بالبلد من أزمة إلى أزمات ومن ورطة إلى ورطات.
فلا نستغرب من تفوق القروية على المدنية في مدنٍ كثيرة قطعت شوطا كبيرا في الثقافة المدنية، وصارت منابر للوعي والتنوير والثقافة، فاليوم عدن لا تختلف عن ريفها، بل تكاد تتحول إلى قرية، وتعز لا تختلف عن ضواحيها فغزتها العصبية، وهكذا صنعاء أسيرة التخلف والطائفية. لقد حولوا اليمن لبؤرة تعصب وعصبية، جنوبا وشمالا، وصار العقلاء تائهون عن الحل، لأن العصبية والتخلف المسلح بالعنف هما سيدا الموقف.
ما يحدث اليوم يذكرنا بالماضي، والتهيئة لكل نكباتنا ومعاركنا الدامية، والخوف أن تستمر تلك العقلية بذلك الغباء لتصنع مبررات الاقتتال بين أبناء المناطق الواحدة، بل بين القبائل والعشائر والجماعات والطوائف والمذاهب، فمتى يستفيق العقلاء والمثقفون ليصطفوا معا ضد العصبية والتخلف والعنف ومليشيا السلاح التي تعنّف الواقع وتحقنه بمزيد من الكراهية والصراعات السلبية المدمرة لإنقاذ وطن تعيس.
0947F93D-78B9-48CD-AD98-B7B1A7035584
0947F93D-78B9-48CD-AD98-B7B1A7035584
أحمد ناصر حميدان (اليمن)
أحمد ناصر حميدان (اليمن)