اليسار الفلسطيني وتحدّيات الراهن

اليسار الفلسطيني وتحدّيات الراهن

01 أكتوبر 2019
+ الخط -
لم ينشغل اليسار الفلسطيني في تحديد هويته الأيديولوجية والفكرية، خارج إعلانه تبنيه الفكر الماركسي واعتباره الحزب الشيوعي للدولة البلشفية مرجعيته الأولى والحصرية في شؤونه التنظيمية والفكرية، إلا بعد انهيار هذه المرجعية دوليا. ولكن وقع هذا الانهيار كان بطيئا على اليسار الفلسطيني، بحكم غلبة المهام السياسية والوطنية على أجندته النضالية، وبحكم أن مؤسسات منظمة التحرير تموضعت في الشتات، حيث استندت تنظيمات اليسار، كباقي التنظيمات السياسية الأخرى، بالأساس، إلى المخيمات والتجمعات الفلسطينية، حاضنةً وقاعدة اجتماعية، وعلى التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية خلال فترة وجودها في لبنان والأردن سابقا. وبالتالي، كان الكفاح المسلح الشكل الرئيس، وربما الوحيد، للنضال خارج فلسطين. وفي الضفة الغربية وقطاع غزة أخذ أشكالا متنوعة في مقاومة الاحتلال الاستيطاني، في ظل ميزان قوى عسكري واقتصادي مختل لصالح إسرائيل. وبتعبير آخر، لم يتدرّب اليسار الفلسطيني على قيادة النضال الاجتماعي والمطلبي والديمقراطي. ولذا بقي انتماؤه الفكري نظريا إلى حد بعيد، لم تصقله المواجهات مع القضايا الاجتماعية والمعيشية. كما أن اعتماد اليسار الفلسطيني مرجعيته الفكرية والتنظيمية "من الخارج" أفقده القدرة في مسؤولية توطين الفكر الماركسي ضمن خصوصيات الحالة الفلسطينية، حيث تشتت الشعب الفلسطيني الجغرافي والمجتمعي، وغياب أساس التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الموحدة له، وغياب الدولة الوطنية المركزية، وتأثيرات هذا الغياب على التكوين الطبقي والثقافي للشعب الفلسطيني، مضافا إليه التداخل
العضوي للتجمعات الفلسطينية مع المجتمعات العربية والدول المضيفة. 
الدافع الأساس لهذه القراءة النقدية أن تتجاوز قوى اليسار الفلسطيني معضلاتها الإشكالية، لكي تلعب دورها التاريخي المنوط بها، وبما يليق بتضحياتها وأهدافها النبيلة. وفقط انطلاقا من الألم الذي يعتصر قلوبنا لما آلت له قضيتنا الوطنية وحالتنا الفلسطينية. وأكثر من ذلك أنها تأتي أيضا في سياق الوفاء حتى لتجربة الكاتب الشخصية، حيث انخرطنا في هذه التجربة النضالية المشرفة، والتي أعتز بها، وفي مختلف ميادينها وتجلياتها، حيث تكوّنت في مسيرتها هويتنا المعرفية والثقافية والفكرية.
في هذا السياق، ليست المراجعة النقدية لدور اليسار الفلسطيني وقواه السياسية ترفا فكريا وحديثا سفسطائيا يتناول أطراف إسقاطاته وحذلقته الكلامية في أحد مقاهي الترف الفكري أو نواديه، بل هو ضرورة وطنية بامتياز، تمليها التحديات والصعوبات والمخاطر التي تواجه المشروع الوطني الفلسطيني برمته، لأن الدور السياسي والاجتماعي لليسار الفلسطيني تمليه وتفرضه مكوّنات البنى والقوى الاجتماعية الطبقية للشعب الفلسطيني. ولأن هذا التنوع الاجتماعي الفلسطيني يستدعي تعبيرات سياسية وفكرية، تحمل مفرزات هذا التنوع، وتجلياته الفكرية والموضوعية.
يشهد الواقع الفلسطيني أزمة عميقة على مختلف الأصعدة؛ يمكن وصفها بالانحباس الاستراتيجي لحراكه الوطني، وغياب استراتيجيته الكفاحية الخاصة، وعدم توفر بدائله الوطنية، من دون أن يعني ذلك غياب هبّاته الوطنية على شكل انفجارات انتفاضية حينا، ومبادرات مقاومة شعبية ومجتمعية مدنية حينا آخر، تأتي في سياق الحالة الطبيعية التي تنتجها معادلة المواجهة بين الشعب الفلسطيني وقمع الاحتلال الإسرائيلي. وتتجلى المعضلة الاستراتيجية لحركة التحرّر الوطني الفلسطيني عموما، وقوى اليسار الفلسطيني خصوصا، في عجزها عن توفير شروط التحرّر والاستقلال لإنهاء الاحتلال الكولونيالي، واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية. ليس هذا فحسب، بل سيرورة التناقضات الداخلية لامتيازات السلطة تحت الاحتلال نحو مشهد غير مسبوق من الانقسام الداخلي والوهن في الأداء السياسي والبرنامجي التنموي. هذا من
جانب، ووهن فعالية قوى اليسار الفلسطيني وتشرذمها من جانب آخر، فيما يواصل الاحتلال الإسرائيلي سياساته ومشاريعه الاستيطانية والتهويدية والضم الزاحف بمزيدٍ من الإجراءات وفرض الوقائع على الأرض التي تجعل منه أمرا واقعا، بعد إخفاق استراتيجية التفاوض وفشل ما تسمى "عملية السلام" في إطار اتفاق أوسلو واستحقاقاته المدمرة على المشروع الوطني الفلسطيني، وطنيا واقتصاديا واجتماعيا، فالسياسات الاقتصادية التي تنتهجها السلطة والحكومة الفلسطينية، وما تنطوي عليه من تهميش مقومات الاقتصاد الوطني الفلسطيني المستقل، والاعتماد على "أوسلو" وملحقاته الاقتصادية والتمويل الخارجي بكل اشتراطاته المأساوية من التبعية والخضوع، والتي لا يقف تأثيرها على الجانب الاقتصادي المعيشي والاجتماعي، بل يمتد ليتحول إلى أداة ابتزاز سياسي للحالة الفلسطينية ومشروعها الوطني.
يشير هذا الواقع، بأبعاده المختلفة، إلى أزمة فكر وعمل فلسطينية عامة، ويضع قوى اليسار الفلسطيني أمام استحقاقاتٍ فكرية وبرنامجية أكثر عمقا، بحيث توضع علامة سؤال جدّية على مشروع اليسار الفلسطيني السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوطني بشكل عام، وقدرة ذلك المشروع على المواءمة بين قدرات الشعب الفلسطيني الكفاحية ومتطلباته الحياتية والاجتماعية والوطنية، بما يوفر التوازن والتناغم بين مهام التحرّر الوطني وإنهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ومهام البناء الاجتماعي وتلبية حقوق المجتمع الفلسطيني واحتياجاته الاقتصادية والاجتماعية.
ويشير الواقع إلى إشكالية القراءة لليسار الفلسطيني للظواهر الاجتماعية والاقتصادية في 
المجتمع الفلسطيني، على الرغم من المحاولات التي تستهدف طرح بعض التصورات والأفكار لفهم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية البنيوية ومواجهتها، والتي سرعان ما تسقط في الخطاب المجرّد والعموميات، وكأن المشكلة يمكن تجاوزها بالخطاب. ومثال على ذلك عدم التمييز بين دور اللجان الاجتماعية ومهمتها في تقديمها الخدمات الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني على الرغم من أهميتها القصوى، ووظيفة هذه اللجان الاجتماعية ومهمتها الأساسية في النضال الاجتماعي الطبقي داخل المجتمع الفلسطيني.
يعكس هذا الواقع إشكاليات فكرية فلسفية واجتماعية على مستوى تعامل اليسار الفلسطيني مع المهام الوطنية والاجتماعية، لأن تشكل الظواهر، بما في ذلك نشوء الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تأتي في سياقاتها الموضوعية، وبالتالي تستدعي مواجهتها بالضرورة العمل من أجل تأسيس سياقات وآليات عمل وبنى بديلة.
لهذا، نجد من الفصائل الفلسطينية، والتي تدّعي اليسارية منها، ما لحقت بركب السلطة وامتيازاتها الوظيفية، من دون أنْ تمتلك حتى مجرّدَ القدرة على التمايز اللفظيّ عن نهج السلطة وفكرها، فأضحت ديكورا لا أكثر ولا أقل، لمركز القرار الفلسطيني ومطبخه السياسي، ودعموا تراجعَهم الموقعي والفكري بسلسلةٍ من التبريرات الإيديولوجيّة، لتكون بمثابة "مراجعة فكريّة ضروريّة" وحماية "المشروع الوطني" والتأقلم مع معطيات "المتغيرات الدولية والإقليمية"؟ إلا إذا كان ذلك تبريرا لإشكالات بنيوية فكرية وانهيار في التفكير السياسي لهذه القوى التي تدّعي اليسارية، وبالاتفاق مع رأي لينين: فإنّ المثقفين "هم أكثرُ الناس قدرةً على الخيانة لأنّهم أكثرُهم قدرةً على تبريرها"، لأنهم يهرولون نحو الامتيازات والألقاب على حساب مواقفهم المبدئيّة. ويكشف واقع الحال أن التصدّي لتلك الأزمات (البنيوية والبرنامجية) يجري، في الغالب، بصورة ارتجالية، وأحيانا "عاطفية"، وفق استراتيجية ردة الفعل على مفاهيم الآخر وسياساته وحراكه، وليس وفق ما يتطلبه بناء الفعل وروافعه استراتيجيا، وكأن التناقضات السياسية والاجتماعية مجرد سوء فهم، وليست تعبيرا عن تناقضاتٍ لواجهات سياسية، تمثل مصالح فئات وشرائح اجتماعية، ولا يمكن التنازل عنها.
يبدو أن أداء اليسار الفلسطيني في مرحلته الراهنة لا يتناسب مع رسالته التاريخية وتضحياته ودوره الوطني الجذري، ومصداقيته الثورية في تعامله مع الحالة الفلسطينية السائدة. لا تتحقق هذه المصداقية باستراتيجية النقد والمعارضة الخطابية فقط، بل أيضا في سعيها إلى تأسيس البدائل الوطنية والاجتماعية وآليات عملها، أي أن تتصدّر قيادة المرحلة سياسيا واجتماعيا، فالاختلاف مع شريحة السلطة الفلسطينية ليس في "الطباع"، بل اختلافا في الطبيعة السياسية العضوية.
واليساري لا يعني السياسي الذي يؤمن بالمزايا السحرية لأفكاره، بل في التزامه وتبنّيه مصالح الجماهير الشعبية في خلاصها الوطني والاجتماعي، وفق آليات عمل مرحلية واستراتيجية، متقدما الصفوف برصيده الجماهيري الملتف حوله، وعليه أن يدفع "الثمن" المطلوب.
الرهان على التغيير في بنية الشريحة السائدة في السلطة الفلسطينية وسياساتها نظري، لا يمت بصلة لأية رؤية تحليلية علمية لصراع الطبقات الاجتماعية ومصالحها. وذلك يستدعي مغادرة اليسار الفلسطيني حالة "حرب المواقع الثابتة" إلى "حرب الحركة والبناء"، وهذا لن يتحقق إلا إذا امتلك اليسار الفلسطيني شروط "التجاوز الجدلي" للواقع القائم.
التجديد والتغيير في الحالة الفلسطينية أبعد ما يكون عن "المركزية الفلسطينية" لتحاشي سلطة الجغرافيا وسلطة الاحتواء وسلطة الامتيازات الطبقية، لا بد من السعي وراء التجديد الفلسطيني من "اللامركزية" في داخل الأطر الجماهيرية والنقابية والمؤسسات المدنية والاجتماعية، لأن سلطة المركز الفلسطيني والتشتت الجغرافي سيحولان دون ذلك.