اليسار الفلسطيني في متاهته

اليسار الفلسطيني في متاهته

26 ابريل 2015
منى حاطوم، "مشهد داخلي" (2008)
+ الخط -

في بدايات القرن العشرين، ظهر اليسار الفلسطيني. كان عبارة عن قوى شيوعية، منها ما كان تابعاً للسوفييت بالمعنى الحرفي للتبعية، ومنها من حاول الاستقلال بتكوينه وفهم مشكلات الواقع وتلمّس القضايا القومية والوطنية، لكنه لم يستطع التعبير عن ضرورات الواقع.

هنا، ظهرت التيارات القومية كتعبير عن المسألة القومية العربية وتعقيداتها وتفرعاتها في مشاريع بتسميات قومية وناصرية وبعثية سرعان ما وصلت إلى أفق مسدود مع نكسة حزيران/ يونيو 1967.

كان لا بد من حدوث تحوّل، تجسّد ببروز "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في العام ذاته، كتشكيل ماركسي جديد يمكن اعتباره يساراً قومياً. تعاظم دور "الجبهة الشعبية" في الأردن، حتى أنها أعلنت عمّان "هانوي" العرب، ونادت بضرورة إسقاط النظام الأردني، ثم برز دورها في انتفاضة 1987 بشكل خاص، وساهمت في تشكيل القيادة الوطنية الموحدة لها في الداخل.

هذا البروز أخذ ينطفئ مع نهايات الانتفاضة في اتفاقيات أوسلو. تراجع دور اليسار العالمي عموماً، بسقوط المعسكر الشرقي، والذي اشتغل هو الآخر على فضح إسرائيل والضغط من أجل تراجعها عن سياسات السيطرة على أراضي الـ67.


الجبهة في مفترق أوسلو
سنختزل اليسار الفلسطيني في الجبهة الشعبية، ونغضّ الطرف عن بقية التنظيمات اليسارية الفلسطينية مثل الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب الفلسطيني أو من تمّسك بالاسم القديم، الحزب الشيوعي الفلسطيني، وذلك لأنها لم توافق فعلاً على اتفاق أوسلو رغم أنها انخرطت في كل ما جاء فيه، وبالتالي ساهمت في إنهاء الانتفاضة.

يتجلى خطأ اليسار بعدم رفضه لكل مسار أوسلو. لنفترض أنه رفض أوسلو بشكل كامل، فهل كان سيحدث هذا المسار؟ نعتقد أن معطيات جديدة كانت ستدعم بقاء اليسار قوياً، وإن فشل أوسلو لاحقاً أدّى إلى صعود الإسلام السياسي ممثلاً بحماس والجهاد الإسلامي؛ في مسار معاكس لهبوط أسهم اليسار.

مجمل القول، إن الفلسطينيين أخطأوا في سيرهم نحو السلطة "الوطنية" على جثة الانتفاضة الشعبية، فبعد ذلك تفكك اليسار وحركة فتح أيضاً، وأصبحت سلطة رام الله هي المتحكمة بمنظمة التحرير.

لقد أرادت إسرائيل إنهاء الانتفاضة، وهذا ما تمّ لها. استطاعت الخروج من مواجهة أعظم انتفاضة في تاريخ فلسطين. وبينما استمرت في إذلال القوى السياسية المشكلة لمنظمة التحرير، أخذت تتراجع عن تنفيذ بنود اتفاقيات أوسلو التي لا تروقها. وفي الأثناء، صعد الإسلام السياسي ولا سيّما حماس، وتفكك المشروع الوطني الفلسطيني، والذي تجسّد لاحقاً في انفصال غزة عن الضفة بعد انتصار حماس في الانتخابات التشريعية.


نهاية المنظمة واحتكار البعد الثوري
كلها إشارات بانتهاء منظمة التحرير وقواها السياسية، ولم تبق سوى قوة سلطوية يتحكم بها أبو مازن ومن يختارهم ضد مصلحة الشعب الفلسطيني، بينما أخذت حماس والجهاد تحتكر البعد الثوري خصوصاً مع انتفاضة عام 2000.

كانت الموافقة على خيار الدولتين واتفاقية أوسلو خطأ جسيماً أعاد اليسار إلى ما قبل الـ 67، حين كان مؤيداً للتقسيم ولـ"حق" إسرائيل في الوجود، ورافضاً المقاومة المسلحة. لا نعني هنا أنه رفض المقاومة المسلحة بعد أوسلو، ولكن برز تيار واسع فيه يلهج بالمقاومة المدنية كخيار وحيد، ومع خيار التفاوض مع إسرائيل على أرضية أوسلو.

لعل أزمة القوى الفلسطينية لا تنحصر بالداخل، إذ يمكن مقاربتها من زاوية انتهاء الوجود الفلسطيني في لبنان، كما من زاوية توقف الدعم المالي مع انهيار الاتحاد السوفياتي ولاحقاَ العراق واليمن الجنوبي، أو من خلال الحصار العربي لمنظمة التحرير ودفعها للتفاوض مع إسرائيل، ورغبة أبو عمار في تشكيل دولة ولو على أقل من 25% من أرض فلسطين.


إذاً هي مؤامرة إمبريالية
حين بدأت الثورة السورية عام 2011، لم ير فيها اليساريون سوى مؤامرة إمبريالية وخليجية. هؤلاء أصرّوا على أن يتوهّموا أن نظام الأسد "وطني" و"داعم للمقاومة"، حتى أن ليلى خالد، عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية، شبّهت هذه الثورة بالتدخل الأميركي في العراق ولكن بأدوات محلية.

توضّح هذه العقلية محدودية الفهم الفلسطيني لمشكلات سورية والعالم العربي، وطبيعة المنهج الذي يحكم اليسار العربي، ومنه اليسار الفلسطيني، ولم تشذ جهة يسارية فلسطينية عن هذا الفهم لما يجري في سورية. إذاً هي مؤامرة إمبريالية وخليجية على بلد الممانعة والمقاومة، وضمنياً يقولون إن كل ثورة لا يقودونها هم ليست بثورة!".

شارك الفلسطينيون في سورية بالثورة بهذا المقدار أو ذاك. وكان هناك رأي عام يفيد بترك مخيم اليرموك خارج التظاهر والثورة، فسكانه لاجئون فأين سيذهبون في حال حاصره النظام أو ضيّق عليهم الخناق كما حدث في بقية سورية؟ وهذا حال كل المخيمات الفلسطينية في سورية، في دمشق ودرعا واللاذقية وحلب وحمص وسواها.

رفض النظام مشاركة الفلسطينيين في الثورة، فحرّك تنظيماته الفلسطينية، كـ "فتح الانتفاضة" والجبهة الشعبية- القيادة العامة برئاسة أحمد جبريل وجيش التحرير الفلسطيني، لمحاصرة الحجر الأسود في دمشق والاعتداء على المتظاهرين هناك، ولاحقاً الدخول بمعارك معهم.
وفي اللاذقية دك المخيّم بكل صنوف السلاح وحصل ذلك في درعا وفي حلب، وبذلك أقحمت المخيمات في المعركة، وبالتالي لم يعد ممكناً القول: فليبق المخيم محايداً، فمن أدخله، هو النظام ومنظماته الفلسطينية.


موقف منظمة التحرير من النظام والثورة
وقفت منظمة التحرير بقواها السياسية إلى جانب النظام السوري، إذ لم تحرّك ساكناً، ولم تنخرط في ضغوط دولية وإقليمية لإضعافه. حماس، ولكونها من الإخوان المسلمين، اتخذت موقفاً مؤيداً للثورة ولكن بتحفظ، وهي ليست ضمن قوى منظمة التحرير على كل الأحوال، وقد تكون أكثر التنظيمات وعياً بالانحدار الذي دخلته المنظمة منذ خروجها من لبنان وبداية مسار أوسلو فيما بعد؛ وظلت تضع شروطاً لانضوائها فيها، بما يعاكس روح أوسلو وبالتالي لم تدخل.

أما الآن، فليس لحماس موقف داعم لتحييد المخيمات، وبالتالي بقاء الفلسطينيين في سورية؛ ولا للمنظمة موقف يجنّب المخيمات التدمير والإبادة. لقد أصبح مصير الفلسطينيين في سورية خارج سورية، فمعظمهم هُجّر ضمن تهجير السوريين.

غير أن التهجير حين يطاول الفلسطينيين، فهو يطاول "فلسطين الثانية"، بما أن العدد الأكبر منهم، كصيغة لاجئين لا مواطنين كحالة الأردن، في سورية، وهم مرتكز كل حركة وطنية فلسطينية يمكن أن تولد وتتجاوز منظمة التحرير وحركات الإسلام السياسي، وكلاهما تحوّل إلى سلطة مكروهة من الفلسطينيين بين الضفة وغزة.

ألا يدعو كل هذا اليسار كي يلعب دوراً إنقاذياً للقضية الفلسطينية، وربما للعالم العربي بأكمله؟ لا شك في أن جملة الشروط الموضوعية تستدعي شرطاً ذاتياً يوازيها ويعبّر عنها؛ وبغيابه تخفق الثورات وتتراجع القضية الفلسطينية ويصبح الخارج الإقليمي والعالمي متحكماً بالداخل العربي.


لماذا يجري التركيز على اليسار
ربما يطرح هذا المدخل سؤالاً لفهم الواقع: لماذا يجري التركيز على اليسار في حين يتجاهل النقدُ الليبراليةَ أو الإسلام السياسي؟ لن نتوسع في هذا السؤال، فالليبرالية تخفق عالمياً، ولم تعد تقدم بديلاً لا في السياسة ولا في التنمية والعقلانية؛ وأما الإسلام السياسي فهو ليبرالي في الاقتصاد، ومحافظ في الشأن الاجتماعي والتعليمي والثقافي، وطائفي في الدستور والقوانين، وفي السياسة ينشد الخلافة الإسلامية أو صيغة معدلة منها (الدولة الإسلامية).

إن الخيار اليساري عربياً وفلسطينياً يتطلب عودة جديدة من دون شك؛ فلا بد من خيارات تواجه الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وإخفاق النظام السياسي الشمولي بأشكاله المتعددة. كل ذلك يدفع باتجاه نضج الظروف الموضوعية وتعفّنها طائفياً وعبر الحروب المدمّرة والتدخّل الإقليمي والدولي.

لكن اليسار، كشرط ذاتي، لا يمكنه العودة دون تقديم رؤية كاملة لمجمل المشكلات المحلية والإقليمية والدولية، وتقديم سياسات واعية وأشكال تنظيمية جديدة، تستفيد من الشكل القديم، ولا تطرحه جانباً وكأنّه شر مطلق، ولا تقف عنده أيضاً وكأنّه خير مطلق.


ضرورة يسار جديد
إذاً هناك ضرورة ليسار عربي وفلسطيني جديد، وأول قضاياه وأولوياته، إنهاء كل علاقة مع سلطة أوسلو والنظام العربي، والعمل على إعادة تفعيل دور الشعب والاعتماد عليه في أي نضال، والمساهمة في إنشاء النقابات والاتحادات، والإقرار بضرورة الديمقراطية كشكل للنظام السياسي وتوسيع الحقوق للطبقات المفقرة فيها، ورفض تسلّط الإسلام السياسي كحماس والجهاد والإخوان المسلمين و"التنظيمات الجهادية"، والموافقة على تشكيل قوى سياسية بمرجعيات إسلامية ولكن على أساس علماني وانطلاقاً من مبدأ المواطنة، ورفض قيادة أي عمل مشترك ما لم يُقِرّ للمفقرين بحقوقهم وينهض بالصناعة والزارعة بصفة خاصة، والتخلص من ذهنية "التسوّل" والاعتمادية على الخارج، والعودة إلى فكرة الدولة الواحدة في فلسطين كما كان الفكرة الراجحة قبل وقوع أوسلو.

حين ينهض اليسار وفق هذه المؤشرات الأولية، سيشكل دفعة ثورية تؤثر على كافة القوى السياسية، وسيدفع لنشوء قوى سياسية أكثر جذرية. ولكن كل ذلك سيتحقق بعيداً عن قوى اليسار الحالية، وهذه إشكالية جديدة؛ فكل المحاولات من خارج هذه القوى فشلت، فهل يمكنها النجاح مجدداً وخلق مشروع وطني فلسطيني، ومشروع عربي ينهض بقضايا العرب ولا سيما طبقاته المفقرة؟

دون ذلك لا خيار للعرب إلا المزيد من التطييف والتراجع أمام إسرائيل، وانتظار تدخل أوسع للدول الإقليمية والإمبريالية، وتصفية أكبر للقضية الفلسطينية، ولن يتوقف ذلك قبل حدوث تغيرات عالمية جديدة تعيد للشعوب حقوقها، وهذا لا يزال خارج الحسابات العالمية، رغم تقدم اليسار اللاتيني والجنوب أوروبي.


(باحث من سورية)

المساهمون