الهندسة الوراثية: العودة إلى المخابر بعد قرن ونصف

الهندسة الوراثية: العودة إلى المخابر بعد قرن ونصف

30 مارس 2017
(ضد المنتجات المعدلة وراثيًا/ جنوب إفريقيا، تصوير: غالو إيماجيس)
+ الخط -
قبل أكثر من عشرين عامًا، استُنسخت النعجة دولي اعتمادًا على مبادئ العالم مندل في الوراثة. وقتها، انبهر العالم واهتز لهذا الإنجاز. منذ ذلك الوقت، والعلم يتقدّم بخطوات بارزة، لكن النقاش الأخلاقي حول فُرص ومخاطر الهندسة الوراثية بقي معطلًا بشكل جزئي لهذا التقدّم، بينما ازداد إغراء الهندسة الوراثية وتطبيقاتها الهائلة.


من علم الوراثة إلى الهندسة الوراثية
زاوج الراهب غريغور يوهان مندل عام 1865 بين البازلاء الصفراء والخضراء لبحث مبادئ توريث الصفات، وقتها لم يخطر في بال مندل أن خطوته هذه ستضع مبادئ لعلم جديد يدعى علم الوراثة، الذي شكّل في ما بعد أساس الهندسة الوراثية.

اكتشف العالم فيبيوس ليفين عام 1929، الحمض النووي الصبغي DNA، الموجود في كل الكائنات الحيّة ويعتبر حامل المعلومات الوراثية، لكن لم يحصل هذا الاكتشاف على اعتراف العلماء حتى عام 1953، عندما نشر العالمان جيمس واتسون وفرانسيس كريك الشكل الثلاثي الأبعاد للحمض النووي الصبغي، ليؤكّدا ما وجده ليفين قبل أكثر من 30 سنة.

في بداية حقبة الستينيات، اكتشف العالم في الكيمياء الحيوية مارشل نيرينبرغ قواعد فك تشفير الكود الجيني، وجاء بعده العالمان الفرنسيان فرانسيس جاكوب وجاك مانو بكيفية تفعيل أو تعطيل وظائف الجينات. في الوقت نفسه، اكتشف العالم البيولوجي فيرنر اربر الأنزيمات القاطعة للحمض النووي الصبغي (المقص الجيني) التي تساعد في تقسيمه في مواقع محدّدة. مكّنت هذه المعلومات حول بنية الخلايا وآليتها العلماء من إعادة تصميم المادة الوراثية.


ولادة علمٍ جديد
استخدم العالمان هربرت بوير وستانلي كوهين المقص الجيني للمرّة الأولى عام 1973 لنقل مورثات من كائن حي إلى آخر، حيث قاموا بنقل مورثات من ضفدع إلى أحد أنواع البكتريا. فكنت النتيجة حمضًا نوويًا مركبًا. مكّن الحمض النووي المنقول الكائنَ المضيف من إنتاج بروتين جديد يعتمد على المعلومات الجينية الموجودة في هذا الحمض النووي. وفتحت هذه التجربة الأولى آفاقًا وخياراتٍ جديد في الهندسة الوراثية والطب.


المخاوف الأولية
طرح النقّاد الكثير من الأسئلة في بداية ظهور الهندسة الوراثية حول حقيقتها وأخلاقية التلاعب في الجين البشري. العالم باول برغ – أحد المساهمين بشكل كبير في المقصّ الجيني- كان أحد أكبر النقّاد للهندسة الوراثية، حيث أوقف في ستانفورد وطالب بوقف مؤقّت للمخابر الوراثية، ما أدّى إلى توقّف التجارب حول العالم.

عُقد عام 1975 مؤتمرٌ في ولاية كاليفورنيا لوضع أسس للتعامل مع الهندسة الوراثية، حيث اتفق 140 عالمًا على منع التجارب في البداية على جينات السرطان أو نشر الكائنات المعدّلة وراثيًا.

دخلت هذه التوصيات في قوانين الهندسة الوراثية حول العالم، لكن تم تجاوزها في بداية ثمانينات القرن الماضي، حيث كان الرأي وقتها أن الإنسان باستطاعته تقدير وتفادي المخاطر.


تجارة الهندسة الوراثية
كان الاستخدام التجاري للهندسة الوراثية مبكرًا جدًا، حيث أسّس العالمان هيلموت بوير وروبرت سوانسن عام 1976 أوّل شركة للهندسة الوراثية"Genentech Inc"، التي نجحت عام 1978 في الوصول إلى كائنات دقيقة قادرة على إنتاج الأنسولين المهم لعلاج مرض السكري عند الإنسان، وتم طرحه بدءًا من عام 1982 في الأسواق التجارية.

جرت أوّل تجربة خارج مخبرية للنباتات المعدلة وراثيًا عام 1986، وبعدها بعامين مُنحت أوّل براءة اختراع لتعديل الفئران جينيًا، والتي كانت تنتهي دومًا بمعاناة الفئران المُختبرة من السرطان. وفي عام 1989 تم في الولايات المتّحدة الأميركية نقل جينات من جسم إلى جسم آخر لأوّل مرة في العالم بمساعدة الفيروسات.

بعدها، صدر أوّل قانون لتنظيم الهندسة الوراثية في ألمانيا عام 1990، حيث وضعت قواعد لإجراءات الأمان وترخيص ونشر المنتجات المعدّلة وراثيًا، وفي الوقت ذاته استخدم الأطباء الأميركيون المعالجة الجينية للمرّة الأولى، حيث تمكّنوا من تصحيح عيوب في خلايا مريضة عن طريق الهندسة الوراثية ووضعها من جديد في جسم المريض.

في السنة نفسها، بدأ عمل منظمة الجينوم البشري التي تضم أكثر من 1000 عالم من أنحاء العالم، والتي تمكّنت لاحقًا من فك شفرة الجينوم البشري بالكامل عام 2003.

كما تمّ عقد المؤتمر الخامس والعشرين للهندسة الوراثية، حيث انتقد أحد أكبر العلماء في الوراثة باول برغ الاستخدام التجاري المتزايد للهندسة الوراثية.


الهندسة الوراثية: جزءٌ من حياتنا
تطوّرت الهندسة الوراثية بمنحى سريع جدًا: ففي عام 1994 طُرحت الطماطم المعدّلة وراثيًا في الأسواق الأميركية، وزُرعت مساحات واسعة عام 1996 من الذرة والصويا المعدّلة وراثيًا، لتسلّط الأضواء في العام نفسه على أوّل حيوان مستنسخ (النعجة دولي).

اصطدمت هذه الإنجازات بموت جيسي غليسنغر البالغ من العمر 18 سنة، والذي توفي نتيجة لإحدى المعالجات الوراثية.

وصل عدد شركات الهندسة الوراثية عام 2000 إلى أكثر من 2500 شركة حول العالم، 400 منها كانت مدرجة في أسواق البورصة. في السنة نفسها، أصدر المجلس الأوروبي في مدينة نيس ميثاق الحقوق الأساسية، الذي حرّم استنساخ البشر. في المقابل وافق مجلس اللوردات البريطاني عام 2001 على السماح باستنساخ الأجنة البشرية لأغراض بحثية.

في الوقت الحالي أصبحت المنتجات المعدّلة وراثيًا شيئًا مألوفًا، كما أن مستقبل الهندسة الوراثية -على الأقل في الصناعات الغذائية- سيعتمد بشكل رئيسي على سلوك المستهلك.

أصبحت الاحتجاجات على الهندسة الوراثية شيئًا مألوفًا أيضًا، حيث قادت الاحتجاجات في فرنسا عام 2008 إلى وقف التجارب غير المخبرية لإنتاج المحاصيل الزراعية المعدّلة وراثيًا والاتّجار بها، أما ألمانيا فلا يوجد منذ عام 2013 أي تجارب غير مخبرية، كما توقّف الاتجار بهذه النباتات أيضًا.

المساهمون