الهدنة الرابحة والهدنة الخاسرة

بعد حرب 1948، وقّعت الدول العربية المتحاربة مع الكيان الصهيوني، باستثناء العراق، أي مصر والأردن وسورية ولبنان، ما تسمى هدنة 1949، ووقعت كلّ دولة بشكل منفصل على تلك الهدنة التي جاءت في سبع مواد. جاء البند الأول من المادة الأولى كما يلي: "يحترم الفريقان، بعد الآن، احتراماً دقيقاً، أمر مجلس الأمن القاضى بعدم الالتجاء إلى القوة العسكرية، في تسوية المسألة الفلسطينية". وكان واضحاً أن كل القوى المتآمرة والأطراف الضعيفة تبحث دائما عن تقليم أظافر القوى الغربية بكلّ ألوانها.
وكانت النتيجة، بعد ذلك، أن تورّطت هذه الدول في معاهدات أخرى أكثر إيلاماً للعرب والعروبة، فتورّطت مصر في "كامب ديفيد" في سبمتبر/أيلول 1978، وها هي الآن تحرس "إيلات" وحدود غزة مساندة للعدو الإسرائيلي، وتورطت الأردن في "وادي عربة" في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1994، وهاهي ترفض فتح مكتب لحركة حماس في عمان. وها هي سورية تعيش واقع التقسيم بين أطراف عدّة. أمّا لبنان، فلم يشذ عن القاعدة كثيراً.
كلّ المعاهدات التي فرضت على العرب، أو هم فرضوها على أنفسهم بتخاذلهم، تهدف إلى وضعهم في خانة الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوّة، فأصبحوا لا يصدقون الانجازات البطولية التي تقدمها حماس لكل العالم، حتى إن المتحدّث باسم الخارجية المصرية قال إنها "مغامرة لأغراض داخليّة"، ونسى الرجل، أن هؤلاء "المغامرين" يصنعون صواريخ تسقط في كل أنحاء الكيان الصهيوني، وأنهم يصنعون طائرات بدون طيار، لتهاجم العدو في عقر داره، وأنهم كما قال إسماعيل هنيّة "من العدم يصنعون توازن الرعب".
هذا هو مربط الفرس، "توازن الرعب"، وقد تمكنت المقاومة في غزّة من تحقيقه، ما أجبر العدو الإسرائيلي على البحث عن هدنة، أو العودة إلى هدنة 2012، كما سارع حلفاؤه، في اليوم السابع من الاعتداء على غزة، إلى البحث عن مخرج لإسرائيل وليس للمقاومة. ولابدّ من الاستثمار في "توازن الرعب" هذا لفرض شروط هدنةٍ رابحة، لا هدنة خاسرة يرسم بنودها إسرائيليون بالدم أو بالخيانة.
أكّدت كلّ الحروب مع إسرائيل، ما بعد سنة 2000، أنها دولة هشّة، لا يحتمل جيشها القتال مدّة تفوق الشهر الواحد، وإن قوّته الحقيقية تمتلكها الطائرات، وأما برّاً فيستحيل عليه التجريب، وقد خسرها مع حزب الله في 2006، لذلك، سوف لن يعيدها في غزة على نحو واسع، حتى وإن هدّد بها آلاف المرّات. كما يتثبت التاريخ العسكري، في كلّ الحروب، أن الطائرات لا تحسم المعارك أبداً، وإنما يكسبها صاحب الأرض الممتلئ بالإيمان والإرادة حتى قبل السلاح، وهو ما تمتاز به المقاومة وجمهورها.
لا شكّ أنّ هذه المقاومة حققت ما لم تحققه كلّ الدول العربية مجتمعة. صنع صواريخ، وتواصل إطلاقها على الرغم من مراقبة طيارات العدو وأقماره الصناعية، اختراق المنظومة الأمنية ومهاجمة قواعد عسكرية بحراً، صنع طائرات من دون طيّار، اختراق كل المواقع الإلكترونية الصهيونية، اختراق بث الفضائيات وبث رسائل مصوّرة، واختراق أجهزة الاتصال، وإرسال رسائل نصّية للعدو، وغيرها من الإنجازات الأخرى المهمة.
كل هذا يدعو حركة حماس والمقاومة إلى أن تفرض شروطهما كاملة في الهدنة المقبلة، فالعدو وحلفاؤه في ورطة حقيقيّة. والهدنة الرابحة هي تلك التي يجب ألّا تخلو من ثلاثة شروط. الأوّل اعتبار النظام المصري شريكاً في الاعتداء على غزة بغلق المعابر، وأنه لا يمكن أن يكون راعيا لأي هدنة. الثاني أن يتضمن الفتح الدائم لمعبر رفح، وهذا شرط يسهل تنفيذه باعتبار أن النظام المصري الحالي تابع لإسرائيل، وسيخضع مثلها للشروط. وثالثاً فتح الحدود البحرية لغزة، على أن تكون فضاء يربط غزة بالعالم. ما عدا هذا ستكون الهدنة خاسرة، ولن تحقق شيئاً من طموحات الشعب المحاصر. فالهدنة الرابحة التي ستحققها المقاومة، هي التي ستغيّر ملامح الشرق الأوسط، لا على مقاسات الرؤية الأميركية الإسرائيلية، وإنما وفقاً لرؤية ومصالح الشعوب.

