الهارب

الهارب

01 مارس 2020
(كريستينا كونفيرسو مع كتابٍ جديد)
+ الخط -

"انهض، أيها الدودة".

هذه الدعوة من شقيقه، أعقبتها ركلةٌ من فاوستو أجلسته على أردافه التي كانت الجزء الوحيد الناتئ من بدنه المتدلّي من على حافّة السرير. قام وتجنّب التطلّع إلى ما وراء النافذة حيث كان المطر يُغشي خلفية رمادية.

بعينين نصف منبلجتين، وصل إلى المطبخ، حيث كانت الأُسرة قد بدأت يومها بالفعل. كان الزوجان جيوستي، وهما والداه، يقفان على جانبَي الطاولة استعداداً للطقس المعتاد: في أي وقت تعود، اجتماعات، مؤتمرات على النت، ذكر لمواعيد المساء وهكذا. ليختفي جسداهما خلف الباب بينما بقيت هذه الأسئلة معلّقة فوق طاولة المطبخ.

شفطَ عصير الفيتامينات المشكّل وابتلع الحبوب الأربعة التي تركتها له والدته؛ فمنذ أن دخل تطبيقُ القيود المفروضة على استهلاك الأطعمة المعلّبة حيّزَ السريان من أجل الحدّ من النفايات، بدأ العمل بتناول الحبوب. كانت عمليات التوزيع تتمّ في محلّات المواد الغذائية عن طريق صنابير، بجرعات حسب الجنس والعمر، مغطّيةً مختلف الاحتياجات الغذائية.

"تحرّكْ أيها الحشرة".

وأعقبت الدعوة الثانية دفعة.

نزل إلى الشارع وانضمّ إلى بقية الطلبة. كان بدنه مدسوساً داخل المعطف يمشى مطأطئاً الرأس. فحيح وسائل النقل الكهربائية من حوله يُسمَع على الطرقات، وكذا القوارب، والدرّاجات والدرّاجات البخارية؛ أن تكون هنا أحدَ المشاة المعزولين أمرٌ خطر وسط بحارٍ من الممرّات المتقاطعة، لذلك كان الجميع يسير في صف واحد. زمّ بييترو شفتيه، وهو يفكر في مستعمرات البطاريق التي شاهدها في الأفلام الوثائقية، البطريق المتروبوليتاني، كان ذلك هو النوع الذي ينتمي إليه.

من أحد الأزقّة دغدغت خياشيمَه رائحةُ القهوة. في أحد المقاهي القديمة كان هناك من يقاوم الحبوب. كانوا قلّةً قليلة، وجميعُهم تقريباً من كبار السن. ابتسم بييترو لفكرة مجتمعٍ كان فيه المسنّون هم المتمرّدون.

لكن ألا ينبغي أن يكون الشباب هم الثوّار؟

هو لم يكن يريد سوى حياة مختلفة؟

لم يكن المسنّون يستسلمون لكل هذا اللون الرمادي من حولهم، وكانوا يتحدّثون عن زمنٍ كان ثمّة فيه أيضاً أشجار وزهور وعطورٌ وألوان.

عندما وصلت مستعمرة الطلبة إلى المدرسة، انقسمت. توجّه هو إلى صفِّ مَن كان سيقوم بزيارة المتحف البيئي ذاك الصباح، حثّ خطاه. عند وصوله إلى الفصل الدراسي، وجد نفسه في الاتجاه المعاكس للهجرة، وقد اصطفّ رفاقُه بالفعل للخروج. التفت واندسَّ بين بقيّة الرؤوس وحقائب الظهر.

كان حرم المدرسة منطقةً للمشاة. وقد ظهرت عبر السنين حوله متاحف المدن الكبرى لتسهيل الرحلات التعليمية. كان المتحف البيئي مصمَّماً على شكل كرةٍ أرضية من زجاج، مدخلُها من الأعلى، حيث يتمّ تسلُّق ممشىً خارجي يلتفُّ صعوداً إلى قمّة الكُرة، وبمجرّد الوصول إلى هناك، يبدأ سلوك الطريق المعاكس بالهبوط إلى الداخل. كانت فصوص الكرة الأرضية تمثّل "الموائل"، والتي كان بعضها منقرضاً من الكوكب. أمّا بقايا المناطق الطبيعية فجرى تصويرُها كجزرٍ عائمة وسط النسيج الرمادي للمدن الكبرى.

الحدائق القليلة كانت أشبه بطوافات وسط محيطٍ إسمنتي.

كان بييترو قد قرأ عن أماكن رائعة، ومستكشفين، ورجال منحوا أسماءهم لبلدان وأشجار وأزهار. أمّا قراءته المفضَّلة، فكانت السيرة الذاتية لتشارلز داروين. فهو أيضاً وقفت عائلته الأصلية في طريقه، وأساءت فهم شغفه ذاك بالمعرفة. بييترو الذي كان يكنّ لوالديه حبّاً جمّاً، لم يكن يشعر بدعمهما لشغفه. وهو من كان يحمل في نفسه تلك الشعلة الخضراء التي فقدها الآخرون. "هذا كلُّه بسبب والدك". جادلت السيّدة جيوستي زوجَها "هو من وضع غُصين الزيزفون في مهد الطفل".

كان الجدُّ رجلاً متمرّداً، لم يستسلم للإسمنت، ولم يتنازل، وبقي مرتبطًا بأشجار آخر متنزّه حضري، إلى أن توقّف قلبُه عن الخفقان. والحقيقية أن والديه حاولا بشتّى الطرق إخماد تلك الشعلة الخضراء في نفسه، لكن دون جدوى؛ فهو قد تذوّق أوراق الزيزفون وأزهاره، عندما حملها إلى فمه، كما يفعل الرضّع، وأصبحت تلك النكهة الآن هي كنزه هو فقط.

واليوم ها هو ذا، أخيراً، يقف وسط الخضرة الافتراضية، لكنه هو على الأقل كان يحتفظ برائحتها ونكهتها. كما كان أيضاً هو الشخص الوحيد الذي زار عديد المكتبات، بعد تحويل كثير من المجلّدات إلى نسخ رقمية، بينما جرى تدمير البعض الآخر، لكن البعض لا يزال يحتفظ برائحة الشجر. كان يشمُّ الكتب الورقية ويبحث عن رائحة الخشب بين الكلمات. في إحدى المرّات، في نهاية اليوم، وجده أمينَ المكتبة نائماً وأنفُه مزروع وسط الصفحات. أما في أقسام المتحف الكروي، فكانت هناك صور عدّة تمنح للزوّار نظرةً عمّا كان عليه العالم، ولا يزال جزئياً، في الجزر الطبيعية النادرة.

"الحياة الجليدية للبولنديّين"، هسهس أمام الألواح، مُحاكياً بيديه حركة الرياح وهي تُفرّق الثلوج. ابتعد رفاقه وهم يرتعدون.

"الموت الواضح للصحارى الآسيوية"، علّقَ قبل قليل على السيناريو ذي الألوان المتداخلة؛ لتتبع كلامَه موجةُ انفضاض أخرى للرفاق عنه. مشهدان آخران من هذا النوع ويحقّق مبتغاه في أن يقف بمفرده كأي مستكشف حقيقي ويختلط بحريّةٍ مع بقية الزوار. وقد حانت الفرصة، عندما وجد الجميعُ أنفسَهم أمام مجموعة من العناكب الأفريقية، ليبدأ هو بسرد عاداتها الغذائية الغريبة: التمزيق، المضغ، القيء، الاجترار. ولم تمض دقائق حتى تحقّق الفراغ من حوله.

والآن يمكن أن يبدأ الاستكشاف.

عاد إلى المدخل وبدأ الزيارة مرّةً أُخرى. ثمّ توقّف أمام النوافذ وهو يشعر بالتعب. السماء تُمطر منذ أسابيع، وكان هناك وابل قويٌّ من الأمطار يتصبّب على تلك البحيرة الإسمنتية.
هل كان هو الوحيد مَن يرى الحياة حزينة لهذا الحدّ؟

هل كان الوحيد مَن يتساءل عن السبب وراء استحالة تجنّب هذا المستقبل؟

مرّت مجموعة من الزوّار من جانبه رامقةً إياه بنظرات متطفّلة. عاد إلى الامتزاج مع سيل الطلّاب الذين انهمروا إلى الطوابق السفلية، حيث وجد نفسَه في بيئته المفضَّلة، الغابات الأوروبية. فحول هذه الأماكن انصبّت العديد من قراءاته، في أزمنة عاش فيها الرجال والنساء في الغابات بحكمة ومهابة وشوق وسحر. حيث الأشجار كانت منازل والغابات عوالم. كان يتجوّل تحت الأنوار الخافتة للقاعات، وسرعان ما لفتت إحدى اللوحات انتباهه على نحو مغناطيسي وغريزي.

اقترب من اللوحة الزيتية لرؤية ألوانها بشكل أفضل، وبقي مسحوراً.

قرأ البطاقة التوضيحية على الحائط بجانب اللوحة: "Beech forest"، غابة الزان، لرسّام يُدعى كليمت.

كان هناك ملتصقاً مع أنفه بالجزء السفلي من اللوحة، ومن ذلك المنظور انفتح خشب الزان أمامه ليثخن في القاع، حيث كانت الجذوع الفضية تندمج ببعضها. كان المشهد خريفياً؛ بساط واسع من الأوراق، غني، وملوّن يفرش الأرض كتنّورة غجرية. وأوراق أخرى كانت تقاوم على أغصان أطول، وهُيِّئ لبييترو أنّه شعر بنسيم يرشح من بين فروع الشجر ويداعب وجهه. أغمض عينيه في دهشة. فتحهما مرّةً أُخرى، وعدّل وقفته، كان ينتصب وحيداً أمام اللوحة. هل فقد عقله؟ هل كان ذلك وهماً أم هبّة هواءٍ تتنقل داخل المبنى.

عاد إلى اللوحة ومرّةً أُخرى داعب النسيم وجهه. غادرت ورقةٌ أحد الأغصان، وتساقطت على طول لحاء شجرة الزان. تابع بييترو مسارها، وفي منتصف الطريق استقرّت على حافة وردية اللون. تناولت يدٌ ناعمة، نبتت من خلف الجذع، ورقةَ الشجرة من سويقتها، وقلبتها بين أصابعها. فرك بييترو وجهه في ذهول عندما عاد بعينيه إلى غابة الزان والتقى بعينَي فتاة. عينان ناعستان، رخاميتا اللون يندمج فيهما الأخضر بالرمادي، كانتا تطالعانه دون خوف، وعلى حافة الوجه كانت تنسدل جديلة بلون القرفة المتمرّدة.

نكص بييترو على عقبيه وهرب. ولم تمض بضع ثوان حتى وجد نفسه خارج القاعة. لملم نفسه، وتظاهر بالتركيز وهو يراقب لوحات مصوّرة أُخرى. لكن في وسط عقله كان هناك كنغر مجنون ينطّ على صدغيه وداخل عينيها هي. أخذ نفَساً عميقاً، محاولاً استعادة تنفُّسه بشكل منتظم، لكن الكنغر لم يخرج من موئله. وقرّر مواصلة الزيارة. كان الوقتُ عصراً، ولن يمضي المزيد من الوقت قبل أن يكتشف المعلّمون هروبه. لم يكن لديه وقت، وكان عليه أن يُقرّر بين العودة إلى الوراء أو الذهاب إلى الفصل. نزل الكنغر إلى القلب، ليجيبه، وبدأ ينبض بشدّة. كان عليه أن يختار بين دقّات قلبه ودوافع عقله.

في الخارج، كان المطر يخدش النوافذ.

في الخارج، كانت الحياة المعتادة في انتظاره.

بلا مخاطر.

بلا مغامرات.

مشى.

الحرّاس كانوا قد بدأوا بالفعل بإقفال القاعات، اعترض أحدهم طريقه، أومأ له برأسه للخروج. "نسيتُ جهازي اللوحي، سأذهب لو سمحتَ لإحضاره بسرعة!" انزاح الرجل من أمامه.

"بسرعة، أنا أراقبك، اتفقنا؟".

"بالتأكيد سيدي، نعم سيدي، شكرا لك".

في غرفة الغابات الأوروبية، الأنوار كانت مطفأة وأضواء الطوارئ كانت تنير المسار.

كانت غابة الزان هناك. ملفوفة في توهّجِ ذهبي لشمس خريفٍ تدفئ القلب.

اقترب بييترو وهو يلهث.

كان على أمل وخوف.

أطرق ببصره إلى الأرض حيث وضع حقيبة ظهره.

تردّد.

رفع بصره إلى اللوحة.

كانت الغابة لا تزال معلّقةً عند لحظة الغروب، أمّا هي فلم يكن لها أيُّ أثرٍ.

هزّ بييترو رأسه، وعلى الأرجح بقي معلَّقاً للحظات طويلة، لكنه على الأقل كان يبحث عن الحقيقة.

قلّب غابة الزان، ثم استسلم، وانحنى لتناول حقيبة ظهره.

داعب نسيمٌ عنقه.

رفع وجهه ورآها.

كانت تمشي حافية القدمين على بساط الأوراق، تمسّد بكفّيها جديلتها الطويلة، وهي تبتسم له.

كان العبور هجراً جميلاً، وانزلق إلى الهناك دون ألم، في احتفالية الألوان تلك.

في أعقاب الإبلاغ عن الاختفاء الذي قدّمته عائلة بييترو جيوستي، شارك المتحفُ بأكمله في البحث عنه، رفاقاً، وزوّاراً، وأساتذة. وحتى الحارس الأخير الذي فاجأه وهو يلهث باحثاً عن جهازه اللوحي. استغرقت عمليات البحث أسابيع. عُثر على الهاتف الذكي مباشرةً، وكان تحديدُ موقع الشريحة التي كانت لا تزال مفعّلة قد أعطى الباحثين أملاً مبكراً، هناك على الأرض أمام لوحة رسمها كليمت. لكن هو بالمقابل لم يعرف عنه بعد أحدٌ أيَّ شيء.


* Cristina Converso قاصّة إيطالية وخبيرة غابات. إلى جانب إصداراتها العلمية نَشرت مجموعة قصص محورها القضايا البيئية. صدر لها "بلهيب الشمس" عن "دار بيريالي" (2017)، و"رجل البراري" عن "بوينديا بوكس" (2019). وعن الدار نفسها، تصدر لها قريباً رواية تشويق بيئية بعنوان "الغابة الأحفورية". اختيرت قصّتها "الهارب" ضمن قصص قصيرة ستصدر عن "المعهد العالي للبيئة في إيطاليا" ISPRA هذا العام.

** ترجمة عن الإيطالية أمل بوشارب. والنصُّ نسخةٌ مختصرة من القصّة التي خصّت مؤلّفتُها "العربي الجديد" بها، وستصدُر نسختُها المطوّلة ضمن مجموعة قصصية خلال العام الحالي

دلالات

المساهمون