النّموذج التّونسي في التّعاطي مع أسئلة النّهضة العربية

النّموذج التّونسي في التّعاطي مع أسئلة النّهضة العربية

12 ابريل 2019
+ الخط -
تفاعلا مع حيدر سعيد 
كتب الصّديق حيدر سعيد في "العربي الجديد" (26/3/2019) مقالاً عنونه "تونس واستعادة أسئلة النّهضة العربيّة"، وضمّنه ما يمكن اعتبارها رسالة مفتوحة إلى المثقّفين التّونسيّين والعرب عامّة. ومن الواضح أنّ ما كتبه كان بِوحْيٍ من وقائع النّدوة التي شاركنا فيها معًا في إطار أنشطة مجلّة عمران، ونظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، في موضوع "الفردانيّة الاجتماعيّة والحرّيات الفرديّة". وكانَ حيدر سعيد شاهدًا على مناقشاتٍ ساخنةٍ محورها تقرير لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة الذي كان الرئيس التونسي، الباجي قائد السّبسي، طلب إنجازه بمناسبة العيد الوطني للمرأة في 13 أغسطس/ آب2017، وأعطى التّوجيهات بخصوص المرجعيّات السّياسيّة والمفضّلة التي ينبغي أن يستند إليها. وقد صدر التقرير في يونيو/ حزيران 2018، متضمّنا مبرّرات اللّجنة المنتخبة ومقترحاتها لإعداده باتّجاه إرساء قاعدة المساواة في الإرث، بديلاً عن النّظام الذي أقرّه رجل الإصلاحات الجريئة، الحبيب بورقيبة، وهو الشّريعة معدّلة، وكذلك التّوسّع إلى أبعد ما يمكن في التّشريع للحرّيات الفرديّة وضمان حقوق الأقلّيات جميعها، أسوة بالنّماذج الغربيّة الطّليعيّة، وبما سمّاه التّقرير "توجّهات القوانين الدّيمقراطيّة الأكثر احتراماً للفرد".
قلت: كان حيدر سعيد حاضرًا ومساهمًا من موقعه في سجالٍ مدارهُ المرجعيّات والمشروعيّات السّياديّة التي استند إليها التّقرير ومقترحاته التّشريعيّة، وربّما فُوجئَ بعض الشّيء بالاستماع إلى تونسيّين وتونسيّات يتجادلون بحدّة بشأن قضايا الهويّة والحداثة والكونيّة، على الرغم من اشتراكهم الظّاهر في الأرضيّة الفكريّة والقيميّة والمرجعيّة الحداثيّة نفسها، وهو ما رأى فيه تنازعًا حول مسائل تفصيليّة باعتبار القضايا والتّحدّيات الكبرى التي ينضوي تحت لوائها هذا الجدل، أي قضايا النّهضة والإصلاح، وأيضا باعتبار المكانة الرّياديّة والمتميّزة التي تحتلّها تونس منذ قرن ونصف القرن، في طرح الحلول واقتراحها في عدد من هذه المسائل.
وإذ أقدّر للأخ حيدر سعيد حرصه على الطّابع النّموذجي للتجربة التّونسيّة، سواء في محاولة النّهضة والإصلاح، أو في مسارِ انتقالٍ للدّيمقراطيّة يبدو لنا محفوفًا بالمخاطر، ومهدَّدًا بالانزلاق نحو إقامة ديمقراطيّة فاسدة، أودُّ مناقشة بعض ما تفضّل به بشأن طبيعة وصلاحيّة الحلول التي اقترحت منذ القرن التّاسع عشر لحالة الضّعف والتّخلّف في صفوف العرب والمسلمين، وخصوصا الاتّجاهات التي سلكتها الإصلاحيّة التّونسيّة في هذا الشّأن، وصولاً إلى الجدل الرّاهن وأسباب الخلاف في صفوف نخبة مثقّفة، تشترك شكليّا في الحداثة الفكريّة، ولكنّها تختلف في العمق بشأن فهم الحداثة والكونيّة، وما تطرحه من إشكالات، وإلى الحدّ الذي يجعل بعض أطرافها، ومن ضمنهم الطّرف المتنفّذ صلب لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة، لا ترى أيّ إشكال في تبنّي سائر مَا أتت به الحداثة الغربيّة والمواثيق الدّوليّة.
أولا، شكّلت انتصارات الحداثة، ممثّلة في التفوّق الحضاري الغربي المتعدّد الأوجه، والاختراق 
الذي حقّقته أوروبّا، باقتصادها وفكرها ومؤسّساتها، صدمةً بالنّسبة لمجتمعات عربيّة وإسلاميّة، كانت تظنّ في نفسها المنعة، وتعيش على أمجاد الماضي، فإذا بها في وضع الفريسة أمام خصم تاريخيٍّ امتلك وسائل القوّة، وجعل من تنظيمه الاجتماعي والقيم التي بَنى عليها اجتماعَهُ المدني والسياسي مصدرًا للتقدّم ومقياسًا له. وفي ذلك السّياق، طُرحت إشكاليّة النّهضة العربيّة ومشاريع الإصلاح الإسلامي، وأفرزت ثلاث إجابات كبرى: الأولى والثّانية لا خلاف في توصيفهما كحدّين: الموقف المحافظ المتمسّك بتماميّة الموروث بحجّة كمال الدّين الإسلامي واكتفائه الذّاتي، ونقيضه الذي يعتبر النّهوض مشروطًا بالقطيعة مع هذا الموروث الإسلامي برمّته، والانخراط بالكامل في ثقافة وفكر الغرب الحديث. في المقابل، يوجد اختلاف في توصيف المواقف التي تتوسط بين الحدّين: فثمّة من يتحدّث عن نزعة للتّوفيق بين المرجعيّتين، الإسلاميّة والغربيّة، والأخذ من نُظُم الغرب ومبادئه في تنظيم الحياة الاقتصاديّة والسّياسيّة، وحتّى الاجتماعيّة، بما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام. وثمّة من لا يرى في هذا السّلوك الانتقائي سوى عمليّة تلفيق بين مبادئ وقيم تنتمي إلى سياقات اجتماعيّة وعوالم فكريّة متباينة كلّ التّباين.
وقد تطرّق بعض المفكّرين العرب إلى "المفارقات" و"سوء التّفاهم" الذي حصل في أثناء نقل رجل الإصلاح مفاهيم الفكر السياسي والاجتماعي الغربي، بواسطة مصطلحات تراثيّة تنتمي إلى حقل السياسة الشرعيّة، وأعطوْا مثالا نموذجيا على ذلك "المُماثلات المستحيلة" التي أقدم عليها رفاعة الطّهطاوي. وكان صاحب هذه السطور قد تطرق إلى هذه القضيّة في كتابه الصّادر أخيرا "المجتمع والإسلام والنّخب الإصلاحيّة في تونس والجزائر". وأودّ هنا تأكيد عدم الاتفاق مع ما ذهب إليه الباحث المغربي كمال عبد اللّطيف من أحكام تعميميّة حشرت مجموع المصلحين مع الطّهطاوي في كيس واحد، وكذلك مع حديثه عن نفي الخطاب الإصلاحي للسّياسة العقليّة بدمجها في السّياسة الشّرعيّة، واعتباره قطع الصّلة بين السّماء والأرض شرطا لقيام سياسة مدنيّة وضعيّة. إنّ كُنْه الفكر الإصلاحي لمحمّد عبده ورسالته يتعارض مع هذا الحكم، والحال أنّ شيخ الإصلاح رفض إسلام المسلم، إذا كان عن تقليد واتّباع وليس عن تدبّر عقليّ، كما حكّم المصلحة والعَقل للتّحرّر من أحكام فقهيّة، لطالمَا أضفيت عليها القدسيّة، ومن ذلك تحليل الفائدة على المعاملات الماليّة، والدّعوة إلى إلغاء تعدّد الزّوجات. ونحن نُعاين تمشّيا قريبا منه في التّجربة الإصلاحيّة التي سبقته بتونس وتفكير الفريق الإصلاحي الذي شارك في إنجاز "أقوم المسالك" المنسوب عادة إلى خير الدّين التّونسي.
لم يكن ذلك الكتاب خاصّا بحاجيات تونس، وبالتالي مرتبطا برؤية محلّيّة، وإن كانت أصيلة 
للإصلاح، كما قد يكون فهمه حيدر سعيد، بل مسكونا بإشكاليّة "التنظيمات" كما سمّيت في إطار الدّولة العثمانيّة، وبالتّالي موجّها إلى كلّ الأقطار العربيّة والإسلاميّة. والأهمّ من ذلك كلّه أنّه أنجز وفق مقاربة مقاصديّة، وبالتّالي اجتهاديّة جريئة، رفضت التّضارب بين العقل والشّرع، بل عرّفت السّياسة الشّرعيّة على أثر العالم التّونسي بيرم الأوّل بأنّها "ما يكون النّاس معه أقرب إلى الصّلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرّسول ولا نَزَل به الوحي".
ثانيا، في إطار هذه المقاربة المقاصديّة، والتي ادّعى واضعوا تقرير لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة الاستناد إليها، وفي تفاعل مع مكتسبات الحداثة السياسيّة الغربيّة، ومحاولة استيعابها ضمن أفق حضاري إسلامي، أبرز خير الدّين وجماعته الإصلاحيّة الزّيتونيّة مقصديْ الحرّيّة والمساواة، ولكن ضمن رؤية متكاملة تتعاضد فيها القيمتان المذكورتان مع قيمة العدل وواجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
اقترنت فكرة المقاصد تاريخيّا بحقل مفاهيمي، مداره جلب المصالح ودرء المفاسد. وبدون الدّخول في تفاصيل افتراق مسار الإصلاح في تونس إلى مدرسةٍ حذرةٍ يقودها شيخ الإسلام الطّاهر بن عاشور، وأخرى جريئة يرمز إليها الثّعالبي فالطّاهر الحدّاد فبورقيبة، وكذلك من دون التوقّف عند ما نعتبرهُ واقعيّة بورقيبة التي جعلته يرفض مساندة الحدّاد في ظلّ واقع استعماري ينبغي فيه الحفاظ على كلّ مقوّمات الهويّة الثّقافيّة ورموزها، ثمّ يعيّن وهو رئيس للدّولة حدودًا لإصلاحاته الثّوريّة، سواء في موضوع التّسوية في الإرث، أو في باب الحرّيات الفرديّة، فإنّ ثمّة ملاحظات وأسئلة تطرح لا فقط على تقرير لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة ومشروع القانون المنبثق عنه، وإنّما كذلك على كلّ مشاريع الإصلاح الجديدة في العالمين العربي والإسلامي: فهل للمقاربة المقاصديّة التي يزعم التّقرير اعتمادها إطارٌ لا تخرج عنه هو غايات الدّين ومبادئه، مهما توسّع الاجتهاد في تأويلها، أم أنّها مفتوحة على كلّ الممكنات؟ بعبارة أخرى، هل تحتفظ هذه القراءة بمصداقيّتها، عندما تُفرد بالاهتمام قيمتيْ الحرّيّة والمساواة، إلى جانب العدل، وتتخلّى عن المكوّنات الأخرى للفكر المقاصدي؟ وما الفارق في هذه الحالة بين الفكر الدّيني وأيّة إيديولوجيّة وضعيّة أخرى؟
ثالثا، في الواقع يتناسى تقرير لجنة الحريات الفرديّة والمساواة المقاربة المقاصديّة عندما يبرّر تشخيصَهُ للأوضاع التونسيّة ومقترحاته بالإحالة إلى المواثيق الدّوليّة التي صادقت عليها الدّولة 
التونسيّة، والتي يعتبرها مُلزمة بتطبيقها حرفيّا. فعندما يعتبر كلّ ما تحقّق للمرأة التونسيّة من مكتسباتٍ قانونيّةٍ قد تجاوزه الزّمن، والحال أنّ آخر تنقيح فيها لا يتجاوز عمره عشر سنوات (!)، وعندما يضخّم قضايا الأقليات، بمن فيهم المثليّون، الذين يدّعي أنّهم محلّ اضطهاد واعتداء على حقوقهم (من دون أن يقدّم برهانا واحدًا)، وعندما يطالب بحرّيّة التّعبير العلني عن أي اعتقادٍ كان (حتّى ولو صادم عقيدة الأغلبيّة الساحقة)، وأيضا عندما يطالب بإلغاء عقوبة الإعدام بشكل مطلق، ومهما كان نوع الجريمة المتّصلة بها، فإنّ مرجعه في كلّ ذلك هي المواثيق الدّوليّة. هذه المواثيق تجد لها، لا في مبادئها العامّة كالحرّيّة والمساواة ومنع الميز وحفظ الكرامة والسّلامة الجسديّة، وإنّما في بنودها التّفصيليّة، مرجعيّة عليا ملزمة، سواء لتفسير ما هو عامّ في الدّستور وتدقيقه، أو لتأويل ما هو غامض من صيغه، علما أنّ هذا الدّستور الصّادر سنة 2014 توافق عليه التونسيّون من خلال ممثّليهم بالمجلس التّأسيسي، ووفّقوا فيه بين المرجعيّتين الإسلاميّة والحداثيّة الكونيّة، في ما هو هامّ من مبادئ وقيم.
رابعا، مثلما يتجلّى في كلامنا، لا يتعلق الخلاف بالقيم المركزيّة للحداثة، وهي ذاتها المبادئ العامّة لحقوق الإنسان، أي الاعتراف بحرّيّة الإنسان في تقرير مصيره وتحديد قناعاته والتّعبير عن آرائه وصياغة أسلوب حياته، وكذلك اعتبار حقوق الشّخص البشري كونيّةً لا تقيّدها الاختلافات في الدّين أو العرق أو اللّون أو الجنس أو المنزلة الاجتماعيّة. لقد سبقت الأديان إلى اقتراح عناصر من هذه الحقوق ضمن السياقات التّاريخيّة التي ظهرت فيها وبالحدود المعروفة عنها، ثمّ جاء في عصرنا الميثاق العالمي لحقوق الإنسان إطارا معياريا مقبولا في مجمله، ونواة لثقافة جديدة. ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ بعض المواقف والصّيغ الواردة فيه وفي المعاهدات المنبثقة عنه، وخصوصا الملحقات التأويليّة لعدد من بنوده، إنّما تعكس الإيديولوجيّة اللّيبيراليّة والثّقافة الفردانيّة السّائدة في الغرب. ولذلك من الطّبيعيّ أن تُلاقي تحفّظات في مجتمعات تعيش أوضاعًا مختلفة لعوالم ثقافيّة لها خصوصيّاتها، ومن ذلك وجود اتّجاه قويّ صلب الرّأي العامّ التّونسي، للمطالبة بإصدار حكم الإعدام وتنفيذه في الجرائم البشعة بحقّ الأطفال والعجّز، كحدّ أدنى، وكذلك مناهضة الدّعاية لعقائد أو ممارسات تشكّل استفزازا مجانيّا للشعور الدّيني السّائد أو للأخلاق العامّة. وعليه، فإنّ التّعاطي مع الحداثة ومع بعض تجلّياتها القيميّة، ومنها الأولويّة المطلقة لحرّيّة الفرد بوصفها مقدّساتٍ تتعالى على النّقد، وتمتنع عن التّنسيب، إنّما يعبّر عن الأسر الذي تمارسه الحداثة الغربيّة. وفي حالة تونس، الثّقافة الفرنسيّة كما أنتجتها فلسفة التّنوير والثّورة اليعقوبيّة والجمهوريّة الثّالثة اللّائكيّة.
لقد أعطى المصلحون الحداثيّون في تونس، وغير تونس، لأنفسهم وللهيئات التّشريعيّة المساندة الحقّ في الاجتهاد وفي القرآن والسنّة، وفي تعطيل أو إلغاء العمل بأغلب أحكام الشّريعة، واعتبر قسم هامّ من الرّأي العامّ التقدّمي والنّخب الحداثيّة هذا الأمر مطلوبا وضروريّا، بحكم المصلحة، ودرءًا للأضرار والمفاسد المترتّبة عن التّشبّث بأحكام فقهيّة، جُعلت لأوضاع أخرى وعصر آخر، فهل تبقى الحداثة في نسختها الغربيّة والمواثيق الدّوليّة بملحقاتها التأويليّة، وحدها فوق النّقد أو التّنسيب؟ هذا بالضّبط ما يستخلص من تقرير لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة الذي يتحدّث عن المعاهدات الدّوليّة، كما لو كانت شريعة بديلة.
خامسا، شكّل هذا الموقف الحداثوي المؤدلج، وما زال يشكّل، مبرّرا لإقصاء قسم كبير من المجتمع التّونسي، وحرمانه من حقوق إنسانيّة أساسيّة. لنذكّر بأنّ التّيّار الحداثوي صلب النّخبة كان رافدا لنظام بن علي في سياسته القمعيّة الشّاملة إزاء الإسلاميّين، وإزاء الحرّيات الدّينيّة، بما فيها الحقّ في حمل الحجاب، وها هو ذَا يدفع بقوّة إلى تعويض قاعدة الإرث التي أقرّها بورقيبة، ومصدرها الشّريعة، بقاعدة مخالفة قائمة على المساواة، ويَعمل على تمرير اختيارٍ يتحمّس له جزء من النّخبة، ويعترض عليه قسم آخر من المجتمع. وبقطع النّظر عن دوافع هذا التيّار المحافظ، والتي لا شكّ أنّ منها العقيدة والعادة والمصلحة في ما يخصّ الرّجال، فهي حقّ لأصحابها، لا يمكن انتزاعه منهم. بيدَ أنّ حداثيّين كثيرين لا يأبهون بهذه المسائل، وكلّ شاغلهم إدانة من يخالفهم الرأي بوصفهم إخوانًا مسلمين و"ظلاميّين" وأعداء التقدّم والدّولة المدنيّة. وفي سبيل إرضاء قناعاتهم الإيديولوجيّة، يدفعون إلى تقسيم التّونسيّين، رغمًا عنهم، وفق خطوط التّباين التي يقفون عليها، وحشرهم في نزاعٍ لن ينفعهم في شيء، ولن يقدّم خطوة باتّجاه إنقاذ البلاد من المصاعب الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تتخبّط فيها.
سادسا، لقد اعتبرنا، منذ صدور تقرير لجنة الحريات الفرديّة والمساواة، أنّه يشكّل، في جانبٍ 
منه، خطوة مهمّة نحو مزيد من التّمكين للمرأة التونسيّة ودعم مكتسباتها. ووافقنا على ما أكّد عليه من "الحاجة إلى مجتمع متنوّع وتعدّدي، يكون فيه للفرد فضاء يسمح له بالتّعبير عن خصوصيّته تجاه المجموعة، مهما كان نوعها"، بيدَ أنّ الرّوح التي قادت التقرير تعكس نزعة إرادويّة فوقيّة ومتعسّفة على النّسيج الثقافي والاجتماعي التونسي. فهل ثمّة حاجة ماسّة ومصلحة في إلغاء مفهوم رئاسة العائلة المسندة تقليديا للرّجل، علمًا أنّ قانون الأحوال الشّخصيّة الحالي ينصّ على تشارك الزّوج والزّوجة وتعاونهما في تسيير شؤون العائلة؟ لماذا لا تترك ديناميكيّة التطوّر الاجتماعي والثقافي تفعل فعلها بالنّسبة لما تبقّى؟ ولماذا الدّعوة إلى قلب القاعدة التشريعيّة في مجال الإرث، بدل ترك الخيار للتّونسيّين بين نظاميْ الشّريعة المعدّلة والمساواة؟
من يحتفون في العالم العربي بالنموذج التّونسي، ومن يحتجّون في تونس بالمثال البورقيبي ويريدون تكراره، في حاجة إلى تقدير أكثر واقعيّة، فمن ناحيةٍ يختلف السّياق اليوم على كلّ الأصعدة عن لحظة الإصلاحات البورقيبيّة، ووضع العائلة والمرأة يختلف اليوم جذريّا عمّا كان عليه قبل منتصف القرن العشرين، وإن كان في حاجةٍ إلى التعهّد صلب بعض الأوساط والفئات الهشّة والمهمّشة. ومن ناحيةٍ ثانية، لا يمكن الاستمرار في التذرّع بمقولة الطّليعة التي من حقّها أن تقود المجتمع إلى ما تراه أصلح له، فبَعد كلّ ما حصل من تجارب تاريخيّة، سواء تجارب الثّورات الشيوعيّة، أو تجارب الإصلاحات الجذريّة الفوقيّة كما حصل في تركيا، أصبح مطلوبا تعديل الرّؤية، بحيث يبقى من حقّ "الطّليعة"، إن أصرّت على هذه الصّفة، أن تطرح مشروعها المجتمعي، وتعمل على إقناع النّاس بوجاهته، ولكن ليس لها أن تفرضه على المجتمع، أو على قسم واسع منه، سواء باستخدام أجهزة الدّولة أو باللجوء إلى الضغط والإكراه الإيديولوجي والثقافي. كتبنا بوضوح أن تونس شهدت، في السنوات الأخيرة، وبشكل متنام، ضغطًا قويّا من الأوساط الحداثويّة واللّائكيّة، باتّجاه التنصّل ممّا نصّ عليه الدّستور في فصله الأوّل، بخصوص الطّابع المسلم للدّولة التّونسيّة، والاكتفاء عمليّا بما ورد في بنده الثّاني بخصوص مدنيّة الدّولة. وقد تكفّلت مناسبة احتفال الرّئيس قائد السّبسي بصدور تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بتصديق تخوّفنا، وذلك عندما زكّى ما جاء في التّقرير أنّ الفصل الأوّل من الدّستور وصفي فقط، بينما الفصل الثّاني حُكمي.
هل ترانا في حاجةٍ للتأكيد على أنّ المجتمع التّونسي متنوّع وتعدّدي إلى حدّ كبير، ومعظمه يرفض أسر القوالب الجامدة، ولكنّه مع ذلك يتمثّل ذاته، وبنسبة عالية، ضمن إطار إسلامي جامع، ولا يبدي أيّ تحمّسٍ أو تجاوبٍ مع الحملات التي تصرّ على تقسيمه إلى معسكرين، متجاهلة الدّعوات الملحّة إلى الاعتدال والتبصّر.
F55D0F41-F220-45B7-88F5-CFCF0691B82C
F55D0F41-F220-45B7-88F5-CFCF0691B82C
عبد اللطيف الهرماسي

أكاديمي وباحث تونسي، أستاذ جامعي في علم الاجتماع

عبد اللطيف الهرماسي