النهر

النهر

24 اغسطس 2019
جون كراكستون/ بريطانيا
+ الخط -

الأمر العسكريّ كان واضحاً: السباحة في النهر ممنوعة، ولا حتّى أن يقترب أحد مسافة أقلّ من مئتي متر. لا مجال إذاً لسوء التأويل. من يعص الأمر يُحَلْ إلى المحكمة العسكرية.

قرأه لهم الرائد قبل بضعة أيّام. أمَر كلّ الكتيبة بالتجمّع وقرأه لهم. أمْر عسكريّ من قيادة اللواء! لم يكن مزحة.

كان لهم ثلاثة أسابيع تقريباً متمركزين عند هذه الناحية من النهر. من جهة النهر الأخرى كان العدوّ، أو الآخَرون كما يسمّيهم كُثُر.

ثلاثة أسابيع بلا عمل. طبعاً لن تطول كثيراً هذه الحال. لكن إلى الساعة يسيطر الهدوء.

على ضفّتي النهر، كانت هناك غابة شاسعة العمق. غابة كثيفة. في الغابة عَسْكَرَ هؤلاء وأولئك.

كانت معلوماتهم تفيد أنّ للآخَرين كتيبتَين هناك. رغم ذلك، لم يكونوا يحاولون الهجوم، من يعرف ماذا كانوا ينوون أن يفعلوا. في الأثناء، كان برجا مراقبة الجهتين، مخفيَّين هنا وهناك في الغابة، جاهزَين لكلّ احتمال.

ثلاثة أسابيع! كيف مرّت ثلاثة أسابيع! ما كانوا يتذكّرون في هذه الحرب، التي بدأت منذ سنتين ونصف تقريباً، وقفة أُخرى كهذه.

عندما وصلوا إلى النهر كان الطقس لا يزال بارداً. منذ بضعة أيام تحسّن. لقد حلّ الربيع!
أوّل من تسلّل صوب النهر كان رقيباً. تسلّل ذات صباح وغطس. بعد قليل انتُشِل إلى رفاقه وفي جنبه رصاصتان. لم يصمد على قيد الحياة طويلاً.

في اليوم التالي توجّه إلى هناك مجنَّدان. ما عاد رآهما أحد قطّ. سمعوا الطلقات فقط، وبعد ذلك عاد الصمت.

إذ ذاك صدر أمر اللواء.

بيد أنّ النهر كان غواية كبرى. كانوا يسمعونه يدفق مياهه وكانوا يتوقون إليه. هاتين السنتين والنصف أكلتهم القذارة. لقد نسوا كَمّاً من المسرّات التي كانوا معتادين عليها. والآن وقد وُجد النهر في دربهم، لكن هناك أمر اللواء...

"تبّاً لأمر اللواء!" همس في تلك الليلة.

تقلّب مراراً وتكراراً ولم يكن يهنأ له بال. كان النهر مسموعاً جانباً ولم يكن يتركه يرتاح.

كان سيذهب في اليوم التالي، كان سيذهب حتماً. تبّاً لأمر اللواء!

كان المجنَّدون الآخرون نائمين. في النهاية غلبه النوم. رأى حلماً، كابوساً. بداية رآه كما هو: نهراً. كان هذا النهر أمامه وكان ينتظره. وهو، عارياً عند الضفّة، لم يكن ينزل إلى المياه. كأنّ يداً خفيّة كانت تمسكه. بعد ذلك تحوّل النهر إلى امرأة. إلى امرأة شابّة، سمراء، مكتنِزة، عارية، مستلقية على العشب، كانت تنتظره. وهو، عارياً أمامها، لم يكن يرتمي فوقها. كأن يداً كانت تمسكه.

استيقظ منهكاً؛ لمّا يكن النهار قد طلع...

عندما بلغ الضفّة، وقف وتطلّع إليه. النهر!

إنّ هذا النهر لَموجود؛ بين الفينة والأخرى كان يفكّر في ما إذا لم يكن النهر موجوداً حقّاً. في ما إذا كان وهماً، وهماً جَماعيّاً.

وجد مناسبة واتّجه ناحية النهر. في الفجر كان آية! إذا حالفه الحظّ ولم يتنبّهوا له... لعلّه يلحق أن يغطس في النهر، أن ينساب في مياهه، ولا هَمَّ عنده ماذا سَيَلي.

على شجرة، عند الضفّة، ترك ملابسه، وبندقيّته منتصبة عند الجذع. ألقى نظرتَين أخيرتَين، واحدة خلفه، خشية أن يكون هناك أحد من معسكره، وأخرى إلى الضفّة المقابِلة، من معسكر الآخَرين. ونزل إلى الماء.

من اللحظة التي دخل فيها جسمه إلى الماء، عارياً، هذا الجسم الذي كان يتعذّب سنتَين ونصفاً، والذي وَسَمَهُ جُرحان إلى الآن، من هذه اللحظة شعر بأنّه إنسان آخر. كأنّ يداً مرّت على نفسه بممحاة ومحت هاتين السنتين.

كان يسبح تارةً على وجهه وطوراً على ظهره. كان يترك نفسه ليحمله التيّار. كان يغوص في المياه.

كان هذا المجنّد صبيّاً الآن، وهو الذي لم تتجاوز سنّه الثالثة والعشرين، لكنّ السنتَين الأخيرتَين تركتا فيه ندوباً عميقة.

يمنة ويساراً، على الضفّتين، كانت العصافير ترفرف، كانت تسلّم عليه إذ تعبر فوقه بين الحين والآخر.

أمامه، كان يمرّ الآن غصن يجرفه التيّار. عقد العزم على بلوغه غوصاً. فحقّق مبتغاه. خرج من الماء قرب الغصن بالضبط. انتابه شعور جميل! لكنّه في اللحظة عينها أبصر رأساً أمامه، على بُعد ثلاثين متراً تقريباً.

همد وحاول أن يمعن النظر.

وذاك الذي كان يسبح هناك قد رآه، وتوقّف هو أيضاً. راحا ينظران إلى بعض.

عاد فوراً إلى ما كان عليه بدايةً: مجنّداً له سنتان يحارب، يحمل وسام "صليب الحرب"، وقد ترك خلفه بندقيّته مستندة إلى الشجرة.

لم يقدر أن يفهم ما إذا كان ذاك الذي قبالته من زملائه أو من الآخرين. كيف له أن يفهم؟ كان يرى رأساً فقط. كان يمكن أن يكون واحداً من معسكره. كان يمكن أن يكون واحداً من الآخَرين.

لبضع دقائق، كانا كلاهما جامدَين في المياه. قطعت السكونَ عطسة. هو الذي عطس، وعلى عادته سبّ بصوت عالٍ. عندها بدأ الذي قبالته يسبح مسرعاً إلى الضفّة المقابلة. وهو كذلك لم يفوّت الوقت. سبح إلى ضفّته بكلّ قواه. خرج أوّلاً. هرع إلى الشجرة حيث كان قد ترك بندقيّته، أمسك بها. كان الآخر قد خرج للتوّ من المياه. راح يركض بدوره ليتناول بندقيّته.

رفع بندقيّته، صوّب. كان سهلاً جدّاً بالنسبة إليه أن يغرز رصاصة في رأسه. كان الآخر هدفاً عظيماً وهو يركض عارياً، على مسافة عشرين متراً فقط.

لا، لم يضغط على الزناد. كان الآخَر هناك، عارياً كما جاء إلى العالم. وهو كان هنا، عارياً كما جاء إلى العالم.

لم يستطع أن يضغط. كانا كلاهما عاريَين. إنسانَين عاريَين. عاريَين من الملابس. عاريَين من اسمَيهِما. عاريَين من الجنسيّة. عاريَين من نفسهما الكاكيّة اللون.

لم يستطع أن يضغط. النهر لم يكن يفرّق بينهما الآن بل على العكس كان يجمعهما.

لم يستطع أن يضغط. الآخر أصبح إنساناً آخرَ الآن، لم يعد آخرَ، فقط إنساناً لا أكثر ولا أقلّ.

أنزل بندقيّته. أخفض رأسه. ولم يرَ شيئاً إلى النهاية، لحق أن يرى فقط بعض العصافير تخفق أجنحتها مرتعبة عندما خرجت الطلقة من الضفّة المقابلة، وهو، ركع أوّلاً، ثمّ هوى بوجهه على التراب.


مئوية ساماراكيس

وُلِدَ أنطونيس ساماراكيس في أثينا في 16 آب/ أغسطس 1919، ورحل في 8 آب/ أغسطس 2003. درس الحقوق في جامعة أثينا، ظهر على الساحة الأدبيّة عبر مجموعته "مَطْلوب أَمَل" عام 1954، التي تضمّ القصّة المترجمة هنا. أثناء احتلال النازيّين لليونان شارك في المقاومة فألقى النازيّون القبض عليه سنة 1944 وحكم عليه بالإعدام، لكنّه تمكّن من الهرب. ولعله القاصّ اليونانيّ الأكثر ترجمة عالميّاً، إذ نقلت أعماله إلى نحو 30 لغة.

* ترجمة عن اليونانية روني بو سابا

المساهمون