Skip to main content
النظام العالمي.. تجديد الثوب
فاطمة ياسين
يستخدم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أسلحة مالية واقتصادية، لخوض حروبه الخاصة، من أبرزها التعريفات الجمركية، فهو يزيد الجمارك المفروضة على سلع ومنتجات مختارة، تستوردها الولايات المتحدة، ليخلق صعوبةً في استيرادها، وصعوباتٍ أخرى في تسويقها بعد أن ترتفع أسعارها جرّاء الزيادات الضريبية. وقد استخدم هذا السلاح، مع الأصدقاء والأعداء، بدأه مع الصين والاتحاد الأوروبي، وهو الآن يفعل الشيء نفسه مع تركيا، وأصبح لدى ترامب منظومة خاصة من العقوبات التي تتجاوز زيادة الضرائب على المستوردات، يفرضها على روسيا وعلى إيران، وعلى كوريا الشمالية. ومن العقوبات الخاصة التي يحتكرها ترامب لصالحه واحدة طريفة، أطلقها عندما كانت الجمعية العامة لاتحاد كرة القدم الدولي تختار الدولة المنظمة لكأس العالم للعام 2026، عندما قال إنه سيعاقب الدول التي لن تختار بلاده.
يبدو الرئيس الأميركي في هذا المضمار شاذّاً، وقد دأب كل الرؤساء، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على الحرص بشدة على تشكيل تحالفٍ واسعٍ عند القيام بأي خطوةٍ دوليةٍ، ولم تكن أميركا تتحرّك في المضمار الدولي، إلا بمساندة سياسية ضخمة، كتدخّلها في حرب الخليج الثانية على العراق، والحرب على أفغانستان، وغيرها.. وكان ترامب قد ألمح إلى نيّته التغريد منفرداً عندما صاح، في أول ليلة له في البيت الأبيض، "أميركا أولاً".
يترجم ترامب هذا الشعار بشكل واقعي، عندما يتفرّد في المعاقبة، ويتطرّف في اتخاذ المواقف، ويستخدم في ذلك كله الوسائل الأميركية المتاحة، خصوصا قوتها وحضورها الاقتصادي في العالم، فتغريداتُه تسبب سقوط العملات، وتُحدث تصدعاتٍ في الاقتصاد الدولي، وهو بذلك لا يجسّد شعار "أميركا أولاً"، بل يكاد أن يقول أميركا فقط مهما حدث للآخرين، وأميركا التي يقصدها هي أميركا ترامب التي تعبّر عنه بتركيبه اليميني الخاص، الميال إلى عزل نفسه في طبقةٍ خاصةٍ تسمو عن البقية، وصوره وهو يلعب الغولف في اسكتلندا بعجرفة واضحة (بينما الاسكتلنديون، وبضمنهم رئيسة الوزراء نفسها في الخارج يهتفون ضد زيارته) ما زالت طازجة، يستعيدها الإعلام بقوة ضد هذا العهد الأميركي الجديد.
تبدو محاولات ترامب جادّة في كسب الأعداء، وقد أصبحت المواقف بينه وبين الاتحاد الأوروبي شديدة التوتر، على خلفية نقاط خلافٍ كثيرة، وتبدو تركيا هنا موضوعاً جديداً، يضاف إلى كل تلك النقاط، على الرغم من أن دولاً رئيسية في الاتحاد الأوروبي تحذّر من محاولات ضم تركيا إليه، وعلى الرغم من حاجة تركيا إلى الوسط الأوروبي كله، لكن هؤلاء يعرفون أنهم بحاجة إلى تركيا أيضاً، فهي تحتل موقعاً مميزاً في حلف شمال الأطلسي، وهو منظمةٌ ما زال النظام العالمي بحاجة إليها، لكن النظام العالمي الحالي في خطر شديد من ترامب، وطريقة تحركاته السياسية التي يغلّفها دائماً بالاقتصاد، أو بالربح الصرف.
تراجعت أميركا عن منطقة الشرق الأوسط خصوصا، ولم يكن لها تأثير كبير على قضايا المنطقة، وما نجم عن الربيع العربي، وشاهدنا كيف احتلت روسيا المشهد، وأعيدت صياغة التحالفات مرة جديدة، وبدا أن لتركيا مقعداً أمامياً في الحلول في سورية، ونمت منظمات ذات طبيعة مالية واقتصادية، مثل بريكس وأوراس. وتحتل تركيا موقعاً قريباً من المنظمتين، بالإضافة إلى إعلان الاتفاق حول توزيع ثروات بحر قزوين، بعد عشرات السنين من الخلافات. وتعطي هذه الأعراض مؤشرات قوية على أن النظام العالمي كله يختلج، وقد بدأت أشكال جديدة بالظهور، ليس ترامب هو المحرّك الوحيد لهذه التغيرات، لكن وجوده بهذه الطريقة الفجّة قد يُساهم بالفعل في تشكيلات دولية أخرى، تغير كل ما هو سائد حالياً، وسيجد ترامب نفسه في مواجهة مجموعة كبيرة من التحالفات الاقتصادية التي لا تعبأ بالدولار، بوصفه عملة عالمية. هذا اليوم قد لا يكون بعيداً أبداً.