تنطق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بحكمها في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري الجمعة، لكن أسئلةً كثيرةً تلاحقها من طول مدة المحاكمة إلى تكلفتها الباهظة، في ظل غياب المتهمين عنها.
وبعد نحو 13 عاماً على تأسيسها بموجب مرسوم صادر عن الأمم المتحدة، تنطق المحكمة بحكمها غيابياً بحق أربعة متهمين تقول إنهم ينتمون إلى "حزب الله"، في قضية غيّرت وجه لبنان، ودفعت لخروج القوات السورية منه بعد 30 عاماً من الوصاية الأمنية والسياسية التي فرضتها دمشق.
وتُعد هذه المحكمة، التي من المفترض أن تُطبق القانون الجنائي اللبناني، بحسب موقعها الإلكتروني، "الأولى من نوعها في تناول الإرهاب كجريمة قائمة بذاتها"، وكلفت منذ تأسيسها 600 مليون دولار، دفع لبنان الغارق في أزمة اقتصادية، جزءاً منها.
وبعد كل هذه السنوات، تدور شكوك حيال مصداقية المحكمة، مع رفض "حزب الله" تسليم المتهمين، ونتيجة اعتمادها بشكل شبه تام على تسجيلات هواتف خلوية. وطالما نفى "حزب الله" الاتهامات، مؤكداً عدم اعترافه بالمحكمة التي يعتبرها "مسيسة".
تلاحق المحكمة أسئلة كثيرة من طول مدة المحاكمة إلى تكلفتها الباهظة، في ظل غياب المتهمين عنها
وفي وقت يترقب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري يوم الجمعة الذي اعتبر أنه سيكون "يوماً للحقيقة والعدالة من أجل لبنان"، يبدو أن لبنانيين كثراً باتوا مشغولين عن المحكمة بالبحث عن لقمة عيشهم في ظل أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان في تاريخه الحديث.
وجراء وباء كوفيد-19، أعلنت المحكمة أنه "سيتلى (الحكم) من قاعة المحكمة مع مشاركة جزئية عبر الإنترنت" الجمعة الساعة 09,00 بتوقيت غرينيتش.
"القتل عمداً"
في 14 فبراير/شباط عام 2005، قُتل الحريري مع 21 شخصاً وأصيب 226 بجروح في انفجار استهدف موكبه مقابل فندق سان جورج العريق في وسط بيروت.
وباستثناء مصطفى بدر الدين، القائد العسكري السابق لـ"حزب الله" والذي قتل في سورية عام 2016، تقتصر المعلومات عن المتهمين الأربعة الآخرين على ما قدمته المحكمة الدولية. ولا يُعرف شيء عن مكان وجودهم.
وأسندت للمتهمين الأربعة، سليم عياش وحسن مرعي وحسين عنيسي وأسد صبرا، اتهامات عدة أبرزها "المشاركة في مؤامرة لارتكاب عمل إرهابي، والقتل عمداً، ومحاولة القتل عمداً".
وكان بدر الدين، يُعدّ المتهم الرئيس و"العقل المدبر" للاغتيال، لكن المحكمة توقفت عن ملاحقته بعد تأكّد مقتله.
وتتهم المحكمة عياش (56 عاماً)، الذي قالت إنه مسؤول عسكري في "حزب الله"، بقيادة الفريق المُنفّذ للعملية. ويُحاكَم كلّ من عنيسي (46 عاماً) وصبرا (43 عاماً)، بتهمة تسجيل شريط فيديو مزيف نسب العملية لجماعة وهمية. ووُجهت لمرعي (54 عاماً) اتهامات بالتورط في العملية.
ويواجه المتهمون، في حال تمت إدانتهم، احتمال السجن المؤبد. ويُتلى حكم العقوبة في جلسة علنية منفصلة عن جلسة النطق بالحكم.
وأوضح متحدث باسم المحكمة أنه "إذا كان الشخص المدان طليقاً وغير حاضر عند تلاوة الحكم والعقوبة، تصدر غرفة الدرجة الأولى مذكرة توقيف بحقه".
ويحق للادعاء والمدان استئناف الحكم أو العقوبة، وفي حال توقيف أحد المتهمين يجوز له أن يطلب إعادة محاكمته.
ولا يعني النطق بالحكم أو العقوبة انتهاء عمل المحكمة، كونها فتحت قضية أخرى العام الماضي، موجهة تهمتي "الإرهاب والقتل" لعياش في ثلاث هجمات أخرى استهدفت سياسيين بين العامين 2004 و2005.
وجاء اغتيال الحريري، الذي استقال من منصبه في 2004، في فترة بالغة الحساسية وفي خضم توتر مع دمشق، التي كانت قواتها منتشرة في لبنان وتتحكم بمفاصل الحياة السياسية. وشكل اغتياله علامة فارقة في تاريخ البلاد، بعدما دفعت النقمة الشعبية وتحالف "14 آذار" السياسي الواسع الذي أفرزه، إلى انسحاب السوريين.
ويقول أستاذ العلاقات الدولية في باريس وبيروت كريم بيطار لوكالة "فرانس برس": "حتى وإن كان للبنان تاريخ طويل من الاغتيالات السياسية، إلا أن هذا الاغتيال شكل زلزالاً حقيقياً".
وخلال المحاكمة، قال الادعاء إنه جرى اغتيال الحريري كونه كان يُشكل "تهديداً خطيراً" للنفوذ السوري في لبنان، الذي تنخره الانقسامات الطائفية والسياسية وترتبط قواه السياسية بدول خارجية.
ويقرّ المدعون بأن القضية تعتمد على أدلة "ظرفية" لكنهم يجدونها مقنعة، وتعتمد أساساً على تسجيلات هواتف خلوية قالوا إنها تبين مراقبة المتهمين للحريري منذ استقالته وحتى الدقائق الأخيرة قبل التفجير.
وورد في القرار الاتهامي الصادر عن المحكمة أنه يقوم على أدلة "ظرفية تقوم على الاستنتاج والاستدلال المنطقيين"، بحسب نص القرار بالعربية، وأبرزها "التلازم المكاني" لسلسلة طويلة من الاتصالات الهاتفية التي أجراها المتهمون من هواتف محمولة عدة.
وأكد سعد الحريري الأسبوع الماضي أنه "لم نقطع الأمل يوماً بالعدالة الدولية وكشف الحقيقة"، داعياً أنصاره إلى التحلي بالصبر و"تجنب الخوض بالأحكام والمبارزات الكلامية على وسائل التواصل الاجتماعي".
يقرّ المدعون بأن القضية تعتمد على أدلة "ظرفية" لكنهم يجدونها مقنعة، وتعتمد أساساً على تسجيلات هواتف خلوية قالوا إنها تبين مراقبة المتهمين للحريري منذ استقالته وحتى الدقائق الأخيرة قبل التفجير
أما رئيس الوزراء الحالي حسان دياب، الذي شكل حكومته قبل أشهر بدعم من "حزب الله"، فحذر الأسبوع الماضي من "ارتدادات استحقاق 7 أغسطس/آب". وقال: "بحسب معلوماتنا، المعنيون في هذه القضية سيتعاطون معها بشكل مسؤول لوقف الاصطياد بالماء العكر الذي قد يلجأ له البعض"، مؤكداً أن "مواجهة الفتنة أولوية".
وأثار تشكيل المحكمة الدولية منذ البداية جدلاً وانقساماً في لبنان بين مؤيدين لها من حلفاء الحريري، وآخرين من حلفاء "حزب الله" شككوا في مصداقيتها.
ويقول بيطار إنه وعلى الرغم من مرور الكثير من الوقت، ودخول الحريري الابن في تسويات سياسية مع "حزب الله"، إلا أن "أكثر ما يثير القلق... أن الاستقطاب لا يزال بالغاً، ومن الممكن أن تشتعل الانتماءات المذهبية مجدداً وبسرعة كبيرة"، والأسوأ أنها ستتزامن مع أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
(فرانس برس)