النسور: ثابت في السياسة الأردنية

النسور: ثابت في السياسة الأردنية

10 أكتوبر 2014
نجح النسور في التمسّك بالكرسي الحكومي (صلاح ملكاوي/الأناضول)
+ الخط -

يعتقد غالبية الأردنيين أن رئيس وزرائهم عبد الله النسور (75 عاماً) قد "باع نفسه"، ويعتبرون أنه "انقلب على مواقفه ثمناً للكرسي"، ويصفه قلّة منهم بـ "المنقذ". غير أن العارفين بالرجل، يطيب لهم إطلاق لقب "الداهية" عليه، لتمكّنه من البقاء في الدوار الرابع، مقرّ رئاسة الحكومة، عامين كاملين، ويبرّرون طموحه للمزيد.

كما لا يُخفى بأن لقب "الدغري"، نسبة إلى قصة للساخر التركي عزيز نسين، التي تحولت إلى مسلسل سوري منتصف تسعينيات القرن الماضي، تليق بالنسور، لكونه يجيد الخداع من أجل تحقيق مكاسب شخصية، تحديداً حين كُلّف من قبل العاهل الأردني عبد الله الثاني في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2012 بتشكيل الحكومة.

قبل ذلك التاريخ، كان الرجل يمارس شغبه من مقعده تحت قبّة مجلس النواب الـ16، الذي جرت انتخاباته يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، وانتهى مصيره بالحلّ يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول 2012، استجابة للغضب الشعبي، ليحوز النسور فيه على لقب "شيخ المعارضين" بحجب الثقة عن أربع حكومات، أشبعها تقريعاً، منحازاً بدون مواربة للحراك الإصلاحي الذي دأب على وصفه بـ "الطاهر"، حتى ظنّ البعض أن الرجل المتمرّس تاريخياً في خندق النظام، انتقل إلى الخندق الآخر.

لم يحدث أن كان الرجل الذي تقلّب في مختلف مناصب الدولة منذ العام 1984، معارضاً، لكنه استشعر اللحظة التاريخية التي عاشتها المملكة تحت تأثير الربيع العربي، ويُنقل عنه قوله عندما كان نائباً، مخاطباً مؤيديه في اجتماع عشائري "إن المرحلة تتطلب ذلك".

كانت المرحلة التي تعيشها البلاد عندما كُلّف النسور معقّدة، ففي أقل من عامين أسقطت الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح رئيسي وزراء هما سمير الرفاعي ومعروف البخيت، واستقال رئيس الوزراء عون الخصاونة نتيجة صراعات عنيفة مع مراكز القوى، وأُقيل رئيس الوزراء فايز الطراونة تطبيقاً للتعديل الدستوري الذي نصّ على استقالة الحكومة التي يحلّ الملك في عهدها مجلس النواب. وعلاوة على الأزمة السياسية، كانت الأزمة الاقتصادية أكثر تعقيداً، فجيوب المملكة خاوية، ورائحة الفساد تزكم الأنوف.

ماذا يفعل "معارض مرحلي" في مواجهة مشكلات مستفحلة؟ وكيف يمكن أن ينفذ سياسات عارضها؟ وكيف سيواصل الدفاع عن الإصلاح الذي يرفضه النظام؟ وكيف سيحمي جيوب الفقراء التي دافع عنها يوم كان نائباً؟ كلها أسئلة رافقت تكليف الرئيس، الذي لم يحتَجْ سوى إلى يوم واحد لتشكيل الحكومة، ما يشي بأن اتفاقاً مسبقاً حدث بينه وبين القصر على تولي المنصب.

"بتقلّب الكراسي تتقلّب المواقف". حدث ذلك، فالنسور رئيس الوزراء ليس النسور النائب، إذ بعد جملة من الوعود التي أعقبت وقتاً غير طويل من التفكير والدراسة، وجد نفسه يسير على خطى من سبقوه من رؤساء الحكومات، واضعاً على سلم أولوياته مهمة تنفيذ ما عجزوا عنه من قرارات صعبة، على رأسها الاقتصادية تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي.

جاب الرئيس المدن الأردنية ملتقياً الفعاليات الرسمية والشعبية ليطلعهم على مأساة الحالة الاقتصادية التي تعيشها المملكة، بعد أن حجبت عنها القروض والمنح والمساعدات، تمهيداً لاتخاذ قرار بتحرير أسعار المشتقّات النفطية، الذي دخل حيز التنفيذ في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، تحت ذريعة حماية الاقتصاد الوطني من الانهيار، وليُسهل على حكومته الحصول على قرض بقيمة ملياري دولار من صندوق النقد الدولي، لتكون جيوب المواطنين التي دافع عنها الرئيس يوم كان نائباً، الطريق الأسهل لحلّ المشكلة، وليقع تحت إملاءات صندوق النقد التي عابها على من سبقوه.

خلّف قراره، يومها، أكبر موجة احتجاج عرفتها المملكة، منتقلة من المطالبة بإسقاط الحكومة إلى المطالبة بإسقاط النظام، لم يجد سوى القمع وسيلة لمواجهتها، لتشنّ أجهزة الأمن حملة اعتقالات واسعة، ضارباً بعرض الحائط دفاعه السابق عن حق المواطنين بالتظاهر، وخلافاً لمواقفه السابقة سمح بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية (محكمة أمن الدولة)، ليخسر النسور تاريخه "المعارض" في ليلة واحدة.
وفي محاولة للظهور في مظهر البطل صاحب الولاية، أشار لاحقاً إلى أنه اتخذ القرار "على الرغم من معارضة الاستخبارات".

وبدأت سلسلة رفع الأسعار المتواصلة، فرفع أسعار الكهرباء تلبية لإملاءات صندوق النقد، الذي يطيب للنسور وصفه بـ "الخبير غير الملزم"، وفرض الضرائب ضمن سياسية جباية ممنهجة، طالت قطاع الاتصالات والحديد والملابس، ورفع الرسوم على بعض الخدمات، وألغى الإعفاءات الضريبية.
وكانت كلها قرارات ساقها في مساعيه، إلى خفض عجز الموازنة الذي ما زال يراوح مكانه، وتخفيض المديونية الخارجية التي ارتفعت لتصل 80 في المائة من الدخل القومي، متجاوزة قانون الدين العام بـ 20 نقطة، كل هذا والرئيس يبشر بأن الاقتصاد على طريق التعافي.
في 23 يناير/كانون الثاني 2013 انتخب الأردنيون مجلس نواب جديد، ليقدم رئيس الوزراء بعد ستة أيام استقالة حكومته للملك، عبد الله الثاني الذي كلّفه القيام بمسؤولياتها لحين تشكيل حكومة جديدة.

وفي عرف سياسي مستحدث، قرر الملك منتصف فبراير/شباط 2013 إجراء مشاورات نيابية لتسمية رئيس الوزراء، في خطوة اعتبرها مقدمة لتشكيل حكومات برلمانية في المستقبل، وكانت المفاجأة أن المشاورات خلصت إلى إعادة تسمية النسور رئيساً للوزراء، رغم التعهّدات التي أطلقها رفاق الأمس بالإطاحة بالرجل عقاباً على قراراته الاقتصادية، أو من باب المناكفة السياسية والغيرة.

نجح النسور في المشاورات ليعيد الملك في 9 مارس/آذار 2013 تكليفه من جديد، ونجح في انتزاع ثقة النواب بحكومته دون تدخل القصر والاستخبارات كما يزعم.
وتمثل لغز النجاح بأن الرئيس فتح شهية النواب دون أن يعدهم، على احتمالية أن يدخل أعضاءً منهم في حكومته مستقبلاً، فبلعوا الطعم، دون أن يحقق حلمهم عندما أجرى تعديلاً على حكومته بعد خمسة أشهر.

بقيت علاقته بمجلس النواب متشنّجة إعلامياً، على الرغم من تمريره غالبية القوانين التي تحتاجها حكومته، وقد يكون أكثر رئيس وزراء هدد المجلس بإسقاطه دون أن يسقط، حتى أن أحد معارضيه خاطبه في إحدى الجلسات قائلا "أنت لما تحكي بتسحرنا".

في عهده اختفت الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح، وهو الذي قدّم نفسه مدافعاً عن الإصلاح المتدرّج الذي أراده الملك، رابطاً بين الإصلاح الذي يريده الشعب والأحداث المأساوية التي تشهدها سورية من تدمير وتهجير، محذراً أن يلاقي الأردن مصير الجار الشمالي.

يقدم الرئيس نفسه ممسكاً بزمام الأمور في الدولة تنفيذاً للولاية العامة للحكومة، على الرغم من غيابه الكامل عن صناعة السياسة الخارجية للدولة، التي يضطلع برسمها الملك، ويكتفي النسور بالدفاع عنها وتبنيها وكأنه صانعها.

يحلم الرئيس وهو يطفئ الشمعة الثانية في منصبه أن يطفئ المزيد من الشموع، مطيحاً بالشائعات التي تتحدث عن قرب رحيله، وهي الشائعات التي طاردته بعد وقت قليل من تكليفه، والتي يقابلها دائماً بابتسامة، مرجعاً أمر بقائه إلى إرادة الملك الذي يبدو متمسكاً به حتى الآن.