النحت الأدبي من دونيا لوكريثيا إلى فردوس

النحت الأدبي من دونيا لوكريثيا إلى فردوس

16 سبتمبر 2020
+ الخط -

مال صديقي بجذعه واستولى على أذني، كان يريد أن يسر بشيء لكنه تحرر من تحفّظه، وقرر أن يصدع بالأمر بين الحاضرين، وليكن ما يكون بعد ذلك؛ فرفع عقيرته "أنهيت أمس قراءة رواية من طراز مختلف"، ونظر يمنة ويسرة ليسبغ على حديثه طابعًا حريفًا قبل أن يضيف "رواية تجعل الولدان شِيبا".

توقعت أن يكون اسم الرواية "امتداح الخالة"، ولم يخب توقعي وفتح بابًا من المقارنات، وعاد بي إلى مطلع العشرين، وصولًا إلى ما يعد أول عمل روائي عربي، من نصيب محمد حسين هيكل (1888 - 1956)، وما تبعه من نقد بوجهيه الإيجابي والسلبي.

مع ظهور رواية "زينب"، أدرك كثيرون أنها ليست مصرية خالصة، لها اسم عربي وبعض ملامح مصرية، لكنها ليست خالصة العروبة على الإطلاق. يومها، لم يضع هيكل اسمه على العمل، واكتفى بتوقيع "فلاح مصري"، استعمل اسمًا مستعارًا لاعتبارات شتى، من بينها أن مؤلَّفه يعد من بواكير الكتابة الروائية عربيًا، فضلًا عن تحرُّجه من الكتابة في الحب.

ليس من بواعث الصدفة أن روسو سبقه في المضمار ذاته، إذ وقّع اسمه كما هو "جان جاك روسو"، لكنه من باب التعمية أو لحفظ ماء الوجه -وهو الفيلسوف السياسي المعروف- أضاف إلى اسمه "مواطن من جنيف"، ثم برّر ذلك لاحقًا بأنه لم يكن متأكدًا من نجاح الرواية، ولم يشأ أن ينسب إلى وطنه إلا عملًا ناجحًا!

كشفت قُبلة حامد لزينب شيئًا يستحق الذكر، إذ قبَّلها على مرأى ومسمع من أهل القرية، لم ينكر عليه أحدهم فعلته، كأنهم خُشُب مسنَّدة، ولا يتفق ذلك مع معالم القرية المصرية؛ فحتى مع التكنولوجيا المتسارعة والعولمة والانفتاح، لا يزال الريف المصري متمسكًا ببقيةٍ من حياء.

هذه القُبلة وما تبعها من أحداث كشفت خللًا في رواية هيكل، جاء ذلك على المستوى السطحي، في حين أن الدراسات المقارنة كشفت ما هو أعمق أثرًا؛ فإن هيكل درس في فرنسا وترجم لبعض أدبائها ومفكريها، واقتطع سنة من عمره (سنة 1909) يترجم لأدب جان جاك روسو (1712 - 1778)، وخصص 40 صفحة لحديث عن روايته "جولي أو هلوبز الجديدة"، محلِّلًا الرواية بأبعادها كافة، ومحيطًا بملابساتها وأبعادها الأدبية والاجتماعية والفلسفية.

إن كانت "زينب" النسخة الريفية المصرية من "جولي" الفرنسية؛ فإن "فردوس" لمحمد البساطي هي الأخرى نسخة ريفية مصرية لـ"دونيا لوكريثيا" البيروفية التي ابتدعها يوسا

في العام التالي، 1910، شرع هيكل في كتابة "زينب.. مناظر وأخلاق ريفية"، وقُدِّر لها أن تبصر النور سنة 1914، وبذلك تكون الرواية العربية -وفق التعريف الحديث للرواية- تأثرت بسميتها الفرنسية، وأطال النُقاد النفس في تأثر هيكل بأدب روسو، ناهيك بروايته المذكورة سلفًا، ارتأى بعض النقاد أنها سرقة أدبية لرواية القرن الثامن عشر.

اختار روسو لروايته اسمًا مزدوجًا، ومثله فعل هيكل، وعند روسو تحب جولي أستاذها سان برو، ويفرِّق المجتمع بينهما لسببٍ أو لآخر، وتتزوج رغم إرادتها السيد دي فولمار بضغط من أهلها عليها، ثم تمرض فتموت وحولها تدور الأحداث. أما لدى هيكل، فإن الأحداث لا تدور حول زينب، وإنما حول حامد ابن الإقطاعي.

يتوزع قلب حامد بين ابنة عمه عزيزة، وزينب العاملة في مزارع قطن أبيه، ويطارد الأخيرة ويقبِّلها أمام الناس، في حين أنها تحب رئيس الأنفار بالمزرعة ويدعى إبراهيم، لكنها لا تتزوج أيا منهما، وتمرض وتموت! كل ذلك يحيلك إلى أحداث الرواية الأصلية لروسو، لكن أخطاءً سردية وفنية يقع فيها هيكل، ليست وحدها القُبلة.

كيف يدخل حامد إلى شيخ القرية ويقدم بين يديه طقوس الاعتراف؟ الاعتراف طقس مسيحي، لكن هيكل لم يتخلص من تأثره برواية روسو، ولا سيَّما أنه كتب الرواية في باريس، واجتهد في تخيل الريف المصري أثناء الكتابة. على كل حال، فإن محاولة هيكل "لها ما لها وعليها ما عليها"، ولا سيما أن البدايات لا يُشترط أن تكون مثالية.

ولعلك تسأل: وما علاقة هيكل ورسو بالرواية الإيروتيكية لماريو فارغاس يوسا؟ تتضح خيوط هذه العلاقة بإضافة عنصر عربي جديد؛ فإذا كانت "زينب" النسخة الريفية المصرية من "جولي" الفرنسية، فإن "فردوس" لمحمد البساطي، هي الأخرى نسخة ريفية مصرية لـ"دونيا لوكريثيا" البيروفية التي ابتدعها يوسا. أعادنا البساطي إلى المحاولات العربية الأولى لكتابة الرواية، وكتب "فردوس" في صورة قص ولصق للرواية اللاتينية بعدما خلع عليها ملامح القرية المصرية، فضلًا عن بعض أحداث تتفق مع البيئة.

يضيق صدر دونيا لوكريثيا بمحاولات الصبي ألفونسو -ابن زوجها- لكنها بعد تهديده بالانتحار تتجاوب معه، وتقع في علاقة آثمة، وينقل الصبي الموضوع كتابةً إلى أبيه، والنتيجة أن يتخلص والده من لوكريثيا، ويعيش الوالد صدمة نفسية، بينما الولد يمارس حياته وكأن شيئًا لم يكن.

يخلع يوسا أردية من الخيال على الرواية، ويصبغها بألوان الواقعية السحرية، ويأتي البساطي -وهو من أعلام القصة القصيرة- ليقدم لنا تمصيرًا لرواية يوسا، ويضع بين أيدينا قصة فردوس ابنة الحسب والنسب، بعد موت والدها تاجر الغلال وصاحب الأطيان، تجد نفسها زوجة ثانية لموافي، ويحاول ابنه سعد إغواءها والزج بها في أتون الرذيلة.

تلمّح لزوجها أن ابنه حاول معها، فيعلق بكلمتين وهو مزهو "الواد كبر"؛ لتتواصل معاناتها النفسية وتسعى للحفاظ على سمعتها، وتنتصر لنفسها بعد محاولات متكررة من سعد، وأخيرًا تتنفس الصُّعداء وينزاح كابوس شيطاني عنها، وإن ترك في نفسها آلامًا ليست بالهينة.

لن يُخطئ القارئ الملامح المنسوخة من عمل يوسا، ومن قبله النقل "الكربوني" -إن صح التعبير على الطريقة القديمة- أو منهجية القص واللصق -على طريقة عصر الكمبيوتر- ولربما يسأل المرء نفسه: أليس في بيئتنا ما يثير خيال الكتّاب ويغري بالكتابة إلا بالنقل عن الأعمال العالمية؟ ماذا لو كانت تلك الأعمال لا تناسب بيئتنا؟ هل يكفي التمصير والتحوير ولي العنق لتتماشى -ولو بالنزر اليسير- مع ثقافتنا وهويتنا العربية؟

في السياق، تناولت السينما قضية الصبي الذي يجد في نفسه الزير سالم ويطارد امرأة، مثلًا السينما الإيطالية في فيلم "مالينا"، تحكي قصة مالينا، إذ يسافر زوجها نينو سكوردينا إلى شمال أفريقيا، إبان الحرب العالمية الأولى، ويتركها نهبة لأعين الرجال ومعهم الصبيان والغلمان!
تأتي النسخة المصرية من هذا العمل عبر فيلم "حلاوة روح"، وإن كان سكوردينا قد اضطر إلى مفارقة مالينا بعد شهرٍ واحد من زواجهما لتلبية نداء الواجب في الحرب، فإن صابر يترك روح فريسة للرجال -والصبية والغلمان كذلك- بعد شهرٍ واحد من زواجهما أيضًا، ويسافر إلى الكويت، ويستمر النحت الأدبي (تعبير مهذب للسرقة الأدبية، أو التناص بشكل محايد) والفني إلى ما لا نهاية.