الناجون من انفجار بيروت... بانتظار الدفن (1)

الناجون من انفجار بيروت... بانتظار الدفن (1)

31 اغسطس 2020
+ الخط -

قبل دقائق، كانت مكعّبات الأطفال تُبنى على شكل هرم، طفلتان (سيلا، وميلا)، تختلفان حول لون قبته، هل حمراء أم صفراء؟ فجأة، صوت هدم المكعبات عال جداً.  "سرسكة" تفتت الزجاج تحفر الآذان والوجدان. هنيهات حسبتها سنوات. صحوت من مشهد رعب بعد دقائق، وإذا الساعة السادسة والنصف مساءً. أعتقد أني نجحت في الوصول إلى طفلتيّ. والضوء اخترق الغرفة بعدما وقعت الستائر مع الشبابيك وأمسى البيت مشرّعاً للهواء والدخان الملون ورائحة الموت.

في اليوم الثاني، لانفجار مرفأ بيروت تكرّر المشهد بين الخيال والحقيقة. ربما الذكرى اختزنت أكثر ممّا تتحمّل، فهل يعقل أن الإحساس نفسه يتكرّر في الوقت نفسه كل يوم؟ وفي لحظة غضب خرجت صارخة من شرفة البيت إلى الشارع، كي يتوقف الشباب المتطوعون عن كنس الزجاج المحطّم. أصبح هذا الصوت "فوبيا" وخوف وذكرى جارحة.

بعد يومين أو ثلاثة أو أسبوع، فالأيام متشابهة والمشاعر أيضاً، وتحديداً عند الساعة الخامسة مساءً، أنتظر زوجي في البيت الكائن بمنطقة الجعيتاوي في الأشرفية، كي أستعير سيارته، ويتسلم مني مسؤولية الاهتمام بطفلتيّ، بينما أشتري بعض الأشياء. فجأة اهتز البيت مجدّداً لأقل من ثانية، فخرجت مباشرة إلى الجيران وسألت هل شعروا بهزة أرضية أم ماذا حصل؟ لكن جميع من سألتهم أكّدوا ألّا هزّة أرضيةً حصلت.

ينصح جميع الاختصاصيين بالبوح لمعالج نفسي بما يجري معك، ويؤكّدون أن الكتابة قد تعالج الصدمات النفسية والحسية. لذلك نبوح ونكتب ما يختلجنا

أحاول استرجاع الأحداث، يوم الانفجار ركبت سيارة زوجي، عند الساعة الخامسة، كانت وجهتي الضاحية الجنوبية لبيروت. سلكت طريق الجميزة، ولكن الطريق كان مزدحماً، السير شبه متوقف والناس في الطرقات، إنّه أول يوم بعد الحجر الذي فرضته الحكومة اللبنانية، بسبب كورونا.

تختلف الأيام ربما، ولكن المشاهد هي ذاتها، لا أستطيع تذكر الشوارع قبل الانفجار، الإحساس يغلب، والمشهد أيضاً. الحيطان والطرقات، والذكريات مشوهة، وحتى القلب أصابه ما أصاب بيروت. قلت في نفسي: لمَ لا أترجل بعد ركن السيارة جانباً؟ وهكذا حصل، إلا أن إحساس تحرك الأرض والسماء والأشياء والناس من حولي عاد من جديد.

عُدت إلى السيارة، وما إن أدرت محركها، حتى سمعت صراخ جارنا: "إسرائيل قصفت مرفأ بيروت". ما هذه التهيؤات؟ لماذا أستعيد ما حدث في تلك اللحظة أينما ذهبت؟ لماذا صرت أكره التجمعات وأي صوت؟ لماذا أرفض رؤية مكعبات الأطفال؟

الحالة الذهنية لا بأس بها، لكن الوضع النفسي ليس جيداً. حاولت أن أقرأ عمّا يحصل معي بعد الانفجار، من الناحية الطبية والصحية. وينصح جميع الاختصاصيين بالبوح لمعالج نفسي بما يجري معك، ويؤكّدون أن الكتابة قد تعالج الصدمات النفسية والحسية. لذلك، نبوح ونكتب ما يختلج فينا، لكن هذه المرة، هل بمقدوي أن أكتب ما حدث حينها وحصل بعدها. وماذا عن بيروت؟ ماذا يمكن أن تقول إن استطاعت؟ أظنها تحتاج لعلاج نفسي أيضاً، فالأمكنة لها روح كما البشر، وروح بيروت تشظت مع الانفجار.

صمود غزال
صمود غزال
صحافية فلسطينية لاجئة في لبنان. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.