المونديال حدثٌ شامل

المونديال حدثٌ شامل

12 يوليو 2018
+ الخط -
منظِّر البروليتاريا، كارل ماركس، ومعه رفيق دربه فريديريك أنجلز، تجاوزا الخمسين من العمر. والفكرة العمالية طاغية، والعمال البريطانيون في أعلى درجات "الوعي الطبقي". اختراعهم لعبة كرة القدم يطور سبُل التواصل في ما بينهم عبر لعبة ترفيهية، وضعوا بأنفسهم قوانينها الدقيقة. مرّ على هذا الاختراع قرن ونصف القرن، تحولت في أثنائه لعبة كرة القدم إلى مباراةٍ عالمية، تنظمها مجموعة "فيفا" المشبوهة، الملْهمة لروايات لا تُحصى عن فسادها المالي. بل وترعاها شركاتٌ عابرةٌ للقارات، في مقدمتها شركتا كوكا كولا وماكدونالد، اللتان تبيعان السموم للطبقة العمالية، أو لورثتها من عاطلين ومرتحلين وفقراء جُدد. مشروب وطعام، لذيذان ورخيصان، يغازلان سقف الحلق، ويحرقان بمواده الكيميائية الأمعاء المعوزة الجائعة.
على مقْلب آخر: روسيا القيصرية تبغض لعبة كرة القدم، لأن الإنكليز هم الذين أدخلوها إلى بلادهم. روسيا السوفييتية ترِث هذا البغض، وتصف اللعبة بـ"البرجوازية". إتحادات الشباب والمثقفين التابعة للحزب الشيوعي الحاكم نشطة في محاربة أي بادرة كروية. وقصة الهداف إدوار سترسلوف الذي أحبطته السلطات السوفييتية في مسعاه إلى العالمية تنتهي الآن بنصب تمثاله عالياً متعالياً على مدخل الاستاد الذي يشهد المبارة النهائية لمونديال هذه السنة. أدار بوتين ظهره للسوفييتية، وأبقى على الأمة الروسية الخالدة. الآن، يتسلْطن في الافتتاح كما في الختام. يقدّم وجهاً محبوباً عن سياسة بلاده، فيما طائراتُه تضرب في الجنوب السوري، وتطيل لائحة ضحاياه.. فيما يتفق، شبه علناً، مع إسرائيل على تأجيل ضرباتها المحتملة على إيران أو مليشياتها، إلى حين انتهاء المونديال.

كانت كرة القدم، في ثلاثينات القرن الماضي، ملاذ الفاشيين الإيطاليين، وموردا ثمينا من بين مواردهم الرمزية. النازية لم تختلف، وإنْ تفوقت نظيرتها الإيطالية كروياً، إذ ربحت الكأس العالمي مرتين، عشية الحرب العالمية الثانية (1934-1938)؛ ما رسّخ قناعة قائدها الفاشي، موسوليني، بأن الفاشية العظيمة تتفوّق على الديمقراطية الحقيرة. تمرّ السنوات، وتتغير أسماء الديكتاتوريين المحبِّين للكرة. لا ليس بوتين وحده، وإن سرق غالبية الأضواء. إنما أيضا عبد الفتاح السيسي، ورمضان قديروف، رئيس الشيشان، التابع مباشرة لموسكو؛ والإثنان، وغيرهما من أشباههم يصادرون "الرموز الأبطال" ليغذّوا أوهام شرعيتهم. وعلى كل حال، لا يتعالى الرؤساء "الديمقراطيون" على نوعٍ كهذا من المصادرة. هم أيضاً يوظفون انتصار فريقهم الوطني من أجل رفع نقاط "المحبة" في استطلاعات الرأي. السياسة والكرة: تُكتَب فيهما المجلّدات.
"الفتيان الذهبيون"، أولئك نجوم الكرة، أبطالها الخارقون، أصحاب الحظ الأكبر في الشهرة والمال. لن تجد في التاريخ ما يشبههم قدر مصارعي الحَلَبات الرومانية، فمثل الكرة، كانت هذه الأخيرة شيئاً، وصارت شيئاً آخر: كما الكرة التي تحولت من نشاط بروليتاري إلى بزنس عالمي، كانت المصارعة طقساً مأتمياً مقدّساً، قبل أن تنقلب إلى نشاطٍ ترفيهي جماهيري. والمصارعون بالأساس إما عبيدٌ أو سجناء حرب. وعندما تحسّنت ظروفهم قليلاً بعد ثورة سبارتاكوس (70 قبل الميلاد)، صار الوجهاء الرومان وأغنياؤهم يبحثون عن مشاريع مصارعين من بين فقراء قومهم، ويموّلون دخولهم إلى مدارس متخصِّصة في إعدادهم لهذه المهنة التي يعلمون سلفاً أنها سوف تنتهي بموتهم الحتمي وسط الحَلَبة. الآن، تغيّرت أشكال اللعبة: لا قتل فيها، كما هي لعبة المصارعين الرومان، لكن أبناء فقراء مهمشين يجنَّدون، في النهاية، من أجل تنمية ثروة الأثرياء، أصحاب الشركات والوكالات العملاقة. من شاهد وجه اللاعب الأرجنتيني الثلاثيني، ليونيل ميسّي، وهو خارج من حلَبة الكرة، منكسر العين، دامعها ربما، بعد خسارة بلاده أمام كرواتيا... لم يمت، لم يقتل، إنما سلبت روحه، سقط، تحوّل بضربة غول إلى إله سابق. مصائر تطلع كالصاروخ، لتنتهي محترقة العقل مثل مارادونا، أو مقتولة الروح، مثل ميسّي. سبارتاكوس بقي زمنا طويلا رمزاً للثورة ضد أشكال العبوديات الحديثة، فهل من سبارتاكوس آخر في الكرة ينتفض على الشروط الموحِشة للعبة الكروية؟
المثقفون والكرة. بما أن غالبية مثقفينا كانت من الهوى اليساري، من الطبيعي أن تكون طليعتهم هي موسكو الكومنترن، الكارهة للعبة، وأن ينشدوا معها وقتها "إن الفوتبول هو أفيون الشعوب". والقليلون جداً من المثقفين الغربيين الذين كانوا في متناولنا قالوا كلماتٍ حلوة عن الكرة، من دون ان ينكبّوا على الكتابة عنها. الفرنسي ألبير كامو أشهرهم، ربما لأن مرض السلّ منعه في الثالثة عشرة من عمره أن يتابع تدريباته. شغفه بقي على قدر حرمانه المبكر من اللعبة. هو وبازوليني وجورج سبمبرم قالوا كلماتٍ صارت محفورةً في الذاكرة الغربية. مثلهم هوبسباوم وأدورنو ونوربرت إلياس وجورج أورويل... ولكل واحدٍ منهم رأيٌ باللعبة، يناقض فيه الآخر. لكن اهتمام المثقفين الغربيين الآن باللعبة قطعَ أشواطاً في الإنتاج الأدبي والنقدي والبحثي. وباتَ في وسع فيلسوف سبينوزا المعاصر، الفرنسي جان كلود ميشيا، أن يقول، من دون رفّة جفن: "إن احتقار كرة القدم ينمّ عن إعاقة فكرية حقيقية"! ربما يكون لهذا الشغف الثقافي الغربي باللعبة دورٌ في إنكباب عدد معتبر من المثقفين العرب على اللعبة، هم أيضاً، من تحليلها ومراقبتها وإيجاد موضوعاتٍ تدور حولها.. إلى ابتداع "الفقشات" الفكاهية حولها. اهتمام المثقفين سيزداد ربما بعد فترة، دورة بعد أخرى.
النساء والرجال والكرة. الشيخ السلفي حرَّم على النساء مشاهدة مباراة المونديال، إذ "يتفرّجنَ على فخود الرجال". ولا يتصوّر الشيخ السلفي أن الموضوع تجاوز "فخود" الرجال. وإن نجوم اللعبة، مدعَّمين بأرقى التصوير البطيء، تحوّلوا إلى أيقوناتٍ جنسية، بالنسبة لغالبية المتفرّجات عليهم؛ الدنيا في جهة، وعقل شيخنا في جهة أخرى. بدأ الرجال يصبحون، وعلناً، موضوع رغبة جنسية، مثل النساء. في السعودية، في إيران، النساء محروماتٌ أو غير محروماتٍ متعة الرغبة، من ارتياد الملاعب....؟! فيما نساءٌ أخرياتٌ يقتحمن المونديال من غير باب: محَكِّمات، وقد سارع الإعلام إلى ترويج صورة أكثرهن جاذبيةً، بشعرها الأشقر
المالس، وابتسامتها العريضة.. ثم، محلِلات ومعلِّقات ومتابِعات مباشرة، على الشاشة كما على المذياع، يزداد عددهن. التحرّش المباشر على الهواء الذي تعرّضت له مراسلاتٌ رياضياتٌ، وردّهن الصاعق على المتحرِّشين، وصارت أشرطته تحمل ملايين المشاهدات. مونديال النساء لكرة القدم سوف يجري العام المقبل؛ بعدما كانت اللعبة محرَّمة عليهن، بالمشاركة والمشاهدة. وإذا اعتمدنا رقم أربعة مليارات، عدد الذين يشغفون بالمونديال، يشاهدونه، يستقتلون لحضوره مباشرة، يستمتعون بأوقاته، أو يحزنون أو ينكسرون، يمكننا حساب مليار امرأة من بينهم.. على الأقل. ثأر نسائي رياضي يضاهي ثاراتٍ نسائيةً في مجالات أخرى كانت حكراً على الرجال. والنساء الرياضيات من بين الأكثر حماسةً لتأنيث كرة القدم، يقلن "إنما هي بداية طريق..". ولا تناقض أبداً بين هذه الأدوار النسائية الجديدة والأدوار الأخرى، بل ثمّة "تعايش" بينهما؛ أعني "القنابل الجنسية" رفيقات نجوم الكرة أو زوجاتهم. تتابع الصحافة قوامهن، سحرهن، طلّتهن، تواضعهن، تقديسهن شريكهن، إله الملعب، صاحب الملايين.
المونديال حدثٌ يشمل أوجه ومجالاتٍ لا سبيل لحصرها، أو إغلاق الباب على معانيها. خذْ مثلاً محبّة البرازيل لدى اللبنانيين الذين كانوا فتياناً في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. هزيمة البرازيل أمام إيطاليا في مونديال ذاك العام كانت عظيمة، نبيلة. مكّنت أولئك الفتية من التحصّن نفسياً من شرور الغزو الإسرائيلي، بالتمتّع بعوالم الجمال البرازيلي الذي حوّل الكرة إلى مادة رومنطيقية...