الموقف التونسي من سورية: عودة لدبلوماسية ما قبل الثورة؟

الموقف التونسي من سورية: عودة لدبلوماسية ما قبل الثورة؟

31 مارس 2017
تظاهرات ضد عودة المقاتلين التونسيين من الخارج(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
أثار امتناع تونس عن التصويت لمصلحة إدانة انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، جملة من الأسئلة حول حقيقة الموقف التونسي من الملف السوري، وما إذا كانت تونس تحذو حذو الدبلوماسية المصرية لناحية الانحياز لصفّ النظام السوري فعلياً في المحافل العربية والدولية، وما إذا كانت الدبلوماسية التونسية قد عادت إلى ما كانت عليه قبل الثورة. الصدمة التي أثارها امتناع تونس عن التصويت لمصلحة إدانة انتهاكات حقوق الانسان (أي إدانة النظام عملياً)، وضعها كثيرون من المتعاطفين مع الثورة السورية، في خانة السلوك المعيب أو المؤسف، وهو ما أسعد طبعاً المعسكر المحسوب على نظام رئيس النظام بشار الأسد ورعاته. فإذا كان من "الطبيعي" على مصر ــ عبد الفتاح السيسي أن تنحاز لمصلحة حكام دمشق، فإنه ليس من الطبيعي أبداً، برأي كثيرين، أن يكون هذا موقف دبلوماسية بلد الثورة التي قامت على شعارات ما قامت عليه الثورة السورية.
وربما يكون مفهوماً أن يؤوَّل الامتناع التونسي عن إدانة النظام السوري، وربما يكون عاكساً لرغبة داخلية حقيقية في رفع مستوى العلاقات مع النظام السوري، بسبب مصالح أمنية بالأساس تتعلق بمخزون المعلومات التي يمكن أن يمتلكها النظام السوري حول المقاتلين التونسيين، وما تثيره إمكانية عودتهم إلى تونس من مخاوف ترقى إلى رأس الأولويات التونسية.

وقال مصدر من مكتب الإعلام في وزارة الخارجية التونسية لـ"العربي الجديد" إن صياغة القرار ووصفه لعمليات القصف على شرقي حلب العام الماضي بأنها جرائم حرب، ليس بالوضوح الكافي، مشيراً إلى أن الامتناع عن التصويت يعود إلى عدم توازن هذا القرار. وهي المصطلحات نفسها التي تتبناها الدبلوماسية المصرية لتبرير امتناعها عن التصويت بشكل متكرر في كل مرة يُطرح مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي من شأنه إدانة النظام السوري.

ولكن الموقف التونسي العام من الملف السوري ليس جديداً، وإنما تأكد منذ انتخابات 2014، بعد أن اقتنع الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي بأنه لا يمكن أن يعيد العلاقات الدبلوماسية مع سورية كما وعد في حملته الانتخابية، ويضحي بعلاقاته الاستراتيجية والتاريخية مع دول عربية وغير عربية، ولذلك كان هو ووزير خارجيته، خميّس الجهيناوي، يرددان باستمرار بأن الموقف من سورية يتحدد داخل الإجماع العربي. وأكد الجهيناوي ذلك منذ أيام في حوار إلى صحيفة جزائرية بمناسبة زيارته للجزائر، قال فيه: "لما يرتئي العرب أن تعود سورية إلى مكانها الطبيعي، وهذا هو مكانها الطبيعي، سورية دولة عربية، ولا يمكن أن نرضى أن تكون سورية خارج الإطار العربي، عندما يرى العرب أنّ سورية يجب أن تعود، تونس ستكون من بين الدول العربية الداعمة، لكن يبقى أن هذه المسألة هي قرار عربي مشترك".

ومهما يكن من أمر، تبدو النظرة التونسية إلى الملف السوري، مرتبكة ومترددة، بسبب الضغوط الداخلية والخارجية الكبيرة التي تخضع لها. فقد أكد الجهيناوي في حوار لوكالة الأنباء التونسية تعليقا على زيارة برلمانيين تونسيين إلى سورية، أن "هذا الوفد لم يُعلِم الجهات الرسمية التونسية بما فيها رئاسة مجلس النواب، ولم ينسّق معها... ولا بد أن يكون هذا التحرك بتنسيق مع الجهاز التنفيذي للدولة وفي إطار دعم السياسة الخارجية الرسمية". وشدد الجهيناوي على "ضرورة أن تعكس التحركات الدبلوماسية في الخارج إرادة الشعب التونسي الذي انتخب رئيساً تعود إليه وحده مهام صياغة سياسة تونس الخارجية، وأن تكون في إطار تنسيق سياسة وطن اسمه تونس".

لكن اللافت في هذا الحوار هو ما أضافه الجهيناوي، إذ اعتبر أنه "كدبلوماسي ووزير خارجية ضد سياسة الكرسي الفارغ والقطيعة، والدبلوماسية هي سياسة التواصل، ولا يمكن القيام بدبلوماسية في ظل غياب التواصل حتى مع ألد الأعداء، لكن هناك درجات في التواصل تقتضيها العلاقات والمصالح الثنائية والتزامات الدولة مع أطراف أخرى، وتونس ليس لديها أي إشكال مع الجانب السوري، وبعثتنا الدبلوماسية في دمشق مهمة، والقنصل في اتصال دائم مع وزارة الخارجية السورية، والتقى أخيراً نائب وزير الخارجية فيصل المقداد". وأضاف: "نؤكد أنه خلافا لما يقال ويروج له، هناك تعاون هام خاصة في المجال الأمني، إذ لدينا عدو مشترك هو الإرهاب ونحن ضد التدمير الجاري في سورية".


وتعكس هذه التصريحات حرصاً تونسياً، في الظاهر، على الإبقاء على الموقف نفسه من الملف السوري، ولكنها تسعى من خلال التنويع في التصريحات والمواقف إلى توجيه رسائل غير مباشرة للطرف السوري، تواترت في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، ولكنها لا تهدف لأكثر من الاستفادة الأمنية في الوقت الحالي، من دون إزعاج بقية الشركاء، وربما تفتح المجال مستقبلاً للتطبيع الكامل مع النظام، إذا تغيرت المعطيات عربياً ودولياً، وهو ما يعني الإمساك بالعصا من الوسط، والاستفادة القصوى من الوضع الحالي المعقد بأقل الخسائر الممكنة. لكن الموقف من سورية في تونس لا يرتبط فقط بضغط المعادلة الخارجية، العربية والدولية، وإنما يتعرض أيضاً إلى ضغوط داخلية كبيرة للغاية، تزايدت في الفترة الأخيرة، على الرغم من تناقضاتها واختلاف الأطراف السياسية التونسية جذرياً حولها، ولن يزيدها الموقف الأخير بعدم التصويت إلا حماوة، لأن تونس تتوجه للعالم أيضاً على أساس أنها نظام ديمقراطي ناشئ يدافع عن مفهوم حقوق الإنسان في مطلقه، ولا يمكن أن يكون محايداً بسبب حسابات ومصالح داخلية.

وتقف الأحزاب التونسية على طرفيْ نقيض من الملف السوري، بين داعم لنظام بشار الأسد من أحزاب المعارضة بالأساس، باستثناء "حراك تونس الإرادة" حزب الرئيس السابق منصف المرزوقي، و"التيار الديمقراطي" وبعض الأحزاب والشخصيات الأخرى، وبين أحزاب الائتلاف الحاكم وتحديدا حزبي "النهضة" و"نداء تونس" الملتزمين بالموقف الرسمي، بالإضافة إلى موقف "النهضة" الذي لم يتغير مبدئياً من الأسد، ولكنه بدأ يشهد بعض التغييرات بشأن الحل السياسي في سورية.

ولا يختلف السبسي كثيراً في نظرته للنظام السوري، إذ قال في كتابه الصادر في فرنسا "تونس... الديمقراطيّة في أرض الإسلام"، إنّ "بشار الأسد ليس له مزاج وبرودة أعصاب والده، ديكتاتورية النظام هي نفسها، ولكن والده كان له وزن آخر، وأعتقد أن سورية ستبني مستقبلها من غير بشار الأسد، ولكن يجب أن يقرر الشعب السوري مصيره وحده".
لكن حدة الخلافات الداخلية بشأن سورية تصاعدت في الفترة الأخيرة، بعد أن أقر البرلمان التونسي لجنة لتقصي الحقائق حول شبكات تسفير التونسيين إلى سورية وبؤر التوتر، في محاولة لتأكيد التهم الموجهة إلى حركة "النهضة" بالأساس واعتبارها المسؤولة عن ذلك. لكن الحركة عكست الهجوم وطالبت بكشف الضالعين في إرسال تونسيين للدفاع عن نظام الأسد أيضاً.

وكان رئيس كتلة "النهضة" في البرلمان التونسي، نور الدين البحيري، طالب بفتح تحقيق بشأن الأخبار المحلية والدولية التي تشير إلى تسفير عدد من المسلحين التونسيين للقتال في سورية وانضمامهم إلى مجموعات تدعم النظام السوري، "الأمر الذي يهدد الأمن القومي". وقال البحيري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "كل تدرب على استعمال السلاح وكل مشاركة في القتال بعيداً عن الراية الوطنية، ومن دون علم السلطات التونسية، يُعتبر بحسب قانون الإرهاب عملاً إرهابياً، مهما كانت الجهة التي سيقاتل معها هؤلاء". وكانت العديد من المصادر قد ذكرت أن مئات التونسيين يقاتلون في سورية إلى جانب النظام السوري في كتيبة تحمل اسم القيادي اليساري محمد البراهمي الذي تم اغتياله عام 2013.