الموسيقى والتقنية: وقائع فلسفية حول ذلك الكائن المتطاير

الموسيقى والتقنية: وقائع فلسفية حول ذلك الكائن المتطاير

06 أكتوبر 2019
عمل إنشائي لـ شيهارو شيوتا (ويكد غيم)
+ الخط -
يتميّز الإبداع الموسيقي عن باقي أنواع الإبداع، كالرسم والشعر، بكونه لا يُرى ولا يُلمس، إنما يسمع وحسب. من هنا يأتي الطابع التجريدي العالي الذي تتحلّى به الموسيقى، والذي قد يُكسيها بعض الغموض عندما نستمع إليها. وعسى أن نزيل طابع الغموض هنا، بأن نصيغ تلقّينا للموسيقى بواسطة المفاهيم والكلمات.

يمكننا مثلاً القول إن العمل الموسيقي هو اجتماع لشقين، الشق العملي الذي يتمثّل بالأدوات والخيارات العقلانية، والشق الجمالي وهو ما يحمله العمل الموسيقي من طاقة تطريبية؛ أي ما يخلقه في نفسنا من إحساس بأننا غادرنا العالم الملموس إلى عالم آخر متحرر من الأشياء والمفاهيم، مترفّع عنها.

وقد نعطي مثالاً على الشق العملي بالاحتمالات الهندسية لتعديل الأصوات بالسنثسايزر (Synthesizer)، أو القرارات العقلانية للمؤلف والتي نتبيّنها من خلال تحليل النص الموسيقي مكتوبًا. أما الشق الجمالي، فهو قد يكون على سبيل المثال استحواذ الموسيقى على مشاعرنا في لحظة ما، أو تغيّر إحساسنا بالوقت؛ كأن تبدو لحظات الزمن أبطأ أو أكثر كثافة عندما نستمع إلى مقطع موسيقي معيّن.

وإذا نظرنا إلى الوقائع الموسيقية، لرأينا أن التفكير العقلاني الهندسي، الذي أحد أهم أشكاله هو التكنولوجيا (كالابتكار في مجال الآلات السمعية (Acoustic) أو الإلكترونية)، ليس هو النوع الوحيد من التقنية الموجود في الموسيقى. فهناك أيضاً تقنيات العزف، كما أن هناك أيضاً تطوّر النظرية الموسيقية وأثرها على الإدراك الحسي عند المستمع (Perception). كذلك، إذا ما نظرنا إلى تلك الوقائع، لرأينا أن للتقنية علاقة وطيدة مع الجمالية، بل إنه قد لا يسهل علينا الفصل أحياناً بين الشق الجمالي والشق التقني في الموسيقى.


الجسد والموسيقى
في حياتنا اليومية، عندما نتحدّث عن ماهية أفضل طريقة للعزف على هذه الآلة أو تلك، نكون في الواقع نتطرّق إلى نقاش كبير موجود في عالم الموسيقى وهو يُعنى بعلاقة جسد الموسيقي بآلته. وإذا ما تخلّينا عن خصوصية كلّ حالة في النقاش، أي أننا إذا ما خرجنا عن اهتمامنا بالآلة الموسيقية التي تشكّل محط اهتمامنا الرئيسي، لوجدنا أن النقاش حول العازف وآلته موجود في العديد من الآلات، وإن بدا لنا أنه يختلف باختلاف الآلة التي يدور حولها. فإذا بدا لنا ذلك، فالسبب يعود إلى أنّ كل آلة لها شكلها ومكوّناتها الصلبة التي تحتّم قواعد تشغيل خاصة بها.

وإذا ما ألقينا نظرة على تلك النقاشات اليومية، لرأينا مثلاً أن في آلات النفخ هناك إشكاليات تقنية تتعلق بمدى خروج اللعاب من الفم وطول النفس، أما في ما يخص الغيتار الباص، فطول ذراع هذه الآلة يؤدّي بالعازف إلى أن يعوج معصمه بدرجة كبيرة، وبالتالي فالإشكالية التقنية في هذه الحالة قد تكون عن كيفية تفادي اعوجاج معصم العازف.

وللمفارقة، فإنّ هذه الإشكالية الأخيرة لا نجدُها تُطرح بالقوة نفسها في حال كانت الآلة الموسيقية التي يدور حولها النقاش هي الغيتار الكهربائي. أما الكتب والمناهج السائدة التي تحاول وضع أسس علمية لأفضل طريقة عزف على هذه الآلة أو تلك، فهي غالباً ما تتجاهل جدّية هذه النقاشات وغالباً ما تقدّم آراء تقليدية موروثة عن تقنية العزف. لذا، فبالرغم من وجود تلك الأسس "المنهجية"، يبقى النقاش حول الجسد والآلة غير محسومٍ بالمطلق.

لكن قد يتراءى لنا أن العلاقة بين العازف والآلة هي علاقة إنسان يعرف قواعد تشغيل "الماكينة" الموسيقية، أي الآلة، فلا يبقى عليه سوى تشغيلها فعلياً، كأن ينزل مفتاح الدو بإصبعه الثاني على البيانو لكي نسمع "دو". وفي حال تبنّينا هذه النظرة حول العلاقة القائمة بين العازف وآلته، نكون قد انطلقنا عن حق من فرضية أن الآلة خارجة عن جسد الإنسان، ونكون قد شدّدنا على الإنسان بوصفه عقلاً - أكثر من كونه جسداً - يشغّل الآلة الموسيقية.

لكنّ اعتبارنا أن الإنسان "يشغّل" الماكينة، إنّما ينطوي في الحقيقة على إغفالنا أن الآلة هي أيضاً امتداد لجسد الإنسان، وليست خارجة عنه وحسب. وإذا ما وضعنا بالاعتبار أن لجسد الإنسان أيضاً قواعد تشغيل، نسأل التالي: كيف تتلاقى قواعد التشغيل بين الآلة والإنسان؟ هل تتطابق فعلاً مع صورتنا عن الإنسان الذي "يشغّل" الماكينة؟ وفي حين أن النقاش الذي نتناوله يطرح أسئلة قد تبدو بديهية، لكننا في وجه هذا الاعتراض نؤكّد أن ما هو "بديهي" هو أكثر ما يستحق النقاش، تماماً لأنه "يبدو" بديهياً.

إنّ ما يثبت ضرورة الأسئلة التي نطرحها، هو وجود وقائع موسيقية تدلّل على وجود مسافة معرفية جسدية بين المستمع والعازف، سواء كان المستمع ناقداً أم لا، موسيقياً كان أم غير موسيقي. أبسط ما تتمثّل به هذه المسافة هو برأينا العبارات التي يقولها المستمع، مثل "الصوت ليس نقياً" أو "هناك خبيط" أو "الصوت نقي" أو "اللمسة جميلة" (Le toucher).

قد تشير هذه العبارات إلى أن هناك فعلاً "شيئاً ما ناقصاً أو موجوداً" في الموسيقى، إلا أنّ هذه العبارات تبقى غامضة. فحتى المؤدي نفسه قد يدرك في ذهنه مقصد عبارة "الصوت ليس نقيّاً" لكنه قد لا يدري بالضرورة كيف ينقّيه، أو أنه قد يترك الأمر لمشيئة الصدف، أو في أحسن الأحوال "يصحّح" عزفه عن طريق "التجربة والخطأ" (Trial-and-error). فعلى الرغم من أن العبارات التي ذكرناها للتو قد تبدو متخصصة أو علمية، إلا أنها ربّما موجودة في الأذهان من دون رديف علمي وعملي لها.

وإذا كانت الآلة الموسيقية خارجة عن جسد الإنسان وتشكّل امتداداً له في الوقت نفسه، إلا أن هذا الأمر لا ينطبق على الغناء، حيث تكون الآلة جزءاً من جسد الإنسان. لكن هذه الخصوصية لا تلغي النقاش حول الجسد والموسيقى، وبرأينا إن الوقائع الموسيقية تثبت ذلك.

إحدى هذه الوقائع هي تعرّض بعض المغنّين للإصابة في أوتارهم الصوتية، كما حصل مع المغنّية البريطانية أديل، أو الفلسطينية الراحلة ريم بنّا. وللمفارقة، فإن ما هو متعارف عليه بوصفه "طريقة تدريب الصوت" كأن يبالغ المغنّي في أخذ النفس وأن يجهد في سبيل أن يكون صوته "أكثر قوة"، يبدو وكأنه يتطابق مع معاييرنا المثالية عن الصوت الجميل والتي تترأّسها "قوة الصوت". بمعنى أن نظرتنا للتقنية وإن بدت علميّة إلا أنها قد تكون متوائمة مع "حدسنا" الجمالي قبل أن تكون ملازمة لمنطق علمي.

وكَوْن بعض أسس تدريب الصوت السائدة قد تؤدي إلى تعرّض المغني إلى إصابة في أوتاره الصوتية، تبرز ضرورة مراجعة الأسس الفيزيائية للغناء ونظرتنا الفلسفية إلى الجسد في الموسيقى. وبالتالي، قد يكون من المجدي أيضاً مراجعة نظرتنا إلى ما يعتبر أنّه "الجميل" في صوت المغنّي.

هذه الوقائع الموسيقية تشير كذلك إلى أننا لا نتعامل مع "بديهيات"، إنما مع صدف تاريخية ومؤسسات وقرارات بشرية أدّت إلى وجود تلك "القواعد البديهية".

إن مسألة الجسد والموسيقى وما تنطوي عليه من مسافة جسدية معرفية بين العازف والمستمع، ليست إلا أحد أنواع المسافات بينهما، فهناك أيضاً المسافة المعرفية النظرية بينهما. فالمستمعون يدركون العمل الموسيقي بأشكال عدّة تختلف بحسب مدى امتلاكهم للأدوات الفكرية الموسيقية، ومعرفة المستمع الموسيقية تؤثّر على مدى ارتياحه بفهم هذه الموسيقى أو تلك.

ولعل أهم السبل في وصول المستمع أو الناقد إلى أن يفهم العمل الموسيقي هو فهم قرارات الموسيقي الذي أنجز أو أدّى العمل، أي قراءة وتحليل النص الموسيقي المكتوب. وعبر النص الموسيقي قد يستطيع المستمع/ الناقد أن يستشف كيف استغل المؤلف القواعد الموسيقية من أجل صياغة المقطوعة التي ألّفها، أو لماذا قرر هذا المؤدّي أن يزيد صخب عزفه في لحظة ما، في حين أن مؤدّياً آخر لم يفعل ذلك في اللحظة نفسها.


المسافة المعرفية النظرية والنظرية الموسيقية
إنّ إمكانية استشفاف قرارات الموسيقي عبر قراءة وتحليل النص الموسيقي المكتوب، تستوجب أن يتحلّى القارئ بالقدرة على فهم معاني الرموز الموسيقية الموجودة في النص الموسيقي. لكن هناك أمراً ثانياً على القدر نفسه من الأهمية، لا يتعلّق بالشخص ومعرفته وحسب، بل بالسيرورة العامة للأحداث التاريخية ومكانه منها، وهو أن القرارات الموسيقية التي يبحث عنها الناقد في النص المكتوب تكون مستمدّة من نظرية موسيقية محدّدة. فالنص المكتوب هو النظرية منجزة، إنّه ممارسة النظرية.

وإذا ما لم يحظ الفرد بمواكبة سيرورة النظرية من خلال موقعه في العالم الاجتماعي، فسيكون على مسافة معرفية نظرية أكبر تجاه الأعمال الموسيقية التي تنطوي على تلك التغيّرات في النظرية الموسيقية. نعطي مثالاً على ذلك في تطوّر النظرية الموسيقية الغربية والتدوين الموسيقي وأثرهما بوصفهما "تقنيّة موسيقية" تشكّل مسافة معرفية نظرية قائمة بين المستمع/ الناقد والعمل الموسيقي، من حيث القدرة على فهم عقلانية تلك الأعمال وأبعادها الجمالية.

إن النظرية الموسيقية الكلاسيكية الغربية (منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن العشرين)، تنطوي على أن يكون النص الموسيقي عاكساً للمادّة السمعية إلى حد بعيد، عبر رموز موسيقية متّفق عليها منذ مئات السنين في الغرب. لكن في الموسيقى الحديثة، ما عاد النص الموسيقي المكتوب يعكس ما نسمعه بالضبط، وبذلك تغيرت قدرة المستمع على أن يفهم قرارات الموسيقي، حتى لو امتلك هذا الأخير القدرات التحليلية المطلوبة.

إحدى تلك النظريات الحديثة هي النظرية الموسيقية التسلسلية الإلكترونية (وهذه النظرية نفسها تشعّبت لاحقَا إلى عدّة نظريات). وتشكّل هذه الموسيقى محتوى سمعياً ذا أصول رياضية وفيزيائية. أما تدوينها فهو لا يتم عبر نوتات ومازورات منظومة وفق تقسيم إيقاعي محدد، بل وفق أشكال هندسية (مربعات ومستطيلات ومثلثات) بأحجام عدة تفصل بينها فروقات زمنية متنوّعة. ومن الأعمال القياسية عند هذا النوع من الموسيقى نذكر الدراسة الثانية لستوكهاوزن.

أما إمكانية فهم وتحليل هذه المقطوعة فهي ليست أمراً مستحيلاً بالطبع، لكنها ممكنة بقدر محدود، بحيث إنه يمكننا فهم المنحى العام للعمل التأليفي لكن ليس تفاصيله كاملةً، بعكس ما هو ممكن بالنسبة لتحليل النص الموسيقي المنجز وفق النظرية الغربية الكلاسيكية.

نعطي مثالاً آخر على تغيّر مفهوم "النص الموسيقي المكتوب"، عبر التطرّق إلى النظرية الموسيقية المينيمالية (Minimalism) أو الأدنوية (والتي أيضاً تشعّبت إلى عدة نظريات). بالنسبة إلى هذه النظرية، يكون "النص" عبارة عن "خليّات" (والخليّة أيضاً مفهوم موسيقي حديث)، أي بشكل مبسّط، مجموعات من النوتات يتم تكرارها.

نعطي مثالاً على هذا في مقطوعة موسيقية تعدّ اليوم قياسية وعنوانها هو "In C" "في نوتة السي" (أي في نوتة الدو) و"نصها" الموسيقي هو 53 "خلية" يتم تكرارها في الوقت نفسه ولكن مع فارق زمني بين الواحدة والأخرى. ورغم أن مؤلّف هذه المقطوعة تيري رايلي قد أشار إلى أنه في آخر المقطوعة يجب إعادة النوتة "دو" مراراً بوصفها أزيزاً (Drone) (والأزيز هو أيضاً مفهوم موسيقي حديث)، إلا أنه لم يحدّد عدد تكرار الخلايا الـ53 ولا ماهية الآلات التي يمكن أن تعزف هذه المقطوعة. وعليه يمكن أن نختبر الاستماع إلى هذه المقطوعة بطريقتين مختلفتين إلى حد بعيد جدّاً، إذا ما سمعناها بتسجيلها الأساسي أو بتسجيل فرقة بروكلين للراجا الكبير.

في هذا المثال الأخير، نرى كيف أن النص الموسيقي نفسه قد يعكس نسخاً أدائية مختلفة جداً. وفي هذه الحالة، يتوجّب على المستمع أن يقوم بجهد كبير لكي "يفهم" انعكاس القرارات العقلانية التأليفية في كل من النسختين، اللتين تنطويان على أبعاد جمالية مختلفة.

وبالتالي، تكون النظرية الموسيقية في هذه الحالة قد زادت من المسافة المعرفية النظرية بين المستمع والعمل الموسيقي. أما في حالة الموسيقى التسلسلية الإلكترونية، فنحن لا نتحدّث عن مقاربة تأليفية متعمّقة ريّاضياً وحسب، بل إننا نتحدث أيضا عن موسيقى ذات طبيعة سمعية إلكترونية. وهذه العناصر السمعية التي أثارت نقاشات موسيقية عنيفة في منتصف القرن الماضي، لم تكن تغيّراً في النظرية الموسيقية وحسب، بل إنها قد أدّت إلى تغيّر علاقة المستمع بالموسيقى من حيث طريقة أدراكه الحسيّة للموسيقى.


التكنولوجيا والإدراك الحسي للمستمع
تغيّر الإدراك الحسي، وهو أحد أهم أشكال تلقّي العمل الموسيقي، مع بروز المواد السمعية الإلكترونية. فهذا التطوّر في نوعية المادة السمعية وسّع الآفاق السمعية الجمالية من جهة، لكنّه عقّد المسافة بين المستمع والعمل الموسيقي من جهة أخرى. فهناك احتمالات كثيرة للتنويع على المواد السمعية والآلات والأصوات البشرية، بحيث أننا لا يمكننا تمييزها بسهولة.

وبما أن التكنولوجيا في العالم المعاصر باتت جزءاً لا يتجزأ من الموسيقى المسجلة والحيّة، فنحن نراهن على أنها تساهم في تشكيل عادات سمعية مشتركة بين مستمعين من أنواع مختلفة، فحتى لو كنا من مستمعي موسيقى كلاسيكية غربية بشكل أساسي، لكننا أيضاً متآلفين مع معيار جمالي سمعي سائد ألا وهو الصوت البشري معدّلاً. وعليه يمكننا القول إن التكنولوجيا قد تساهم في تصغير المسافة بين المستمعين ذوي التجارب الإدراكية الحسية المختلفة من حيث أنها تمد الجميع بعادات سمعية متقاربة.

ونظراً إلى أن المواد السمعية التي قد نجدها في الموسيقى الحديثة الغربية "الجدّية" (الأكاديمية) ذات طبيعة مشتركة مع تلك الموجودة في الموسيقى الإلكترونية المحترفة المعاصرة، والتي تتمثّل بالعيّنات السمعية المتأتية مثلاً عن تقطيع الأصوات وتعديلها إلكترونياً والتعقيد الإيقاعي والتكرار، فبرأينا أن هذا التقارب في المواد السمعية يقرّب ما بين التجارب الإدراكية الحسية بين مستمعي الموسيقى الحديثة الأوروبية الأكاديمية ومستمعي الموسيقى الإلكترونية. وربّما نستطيع المراهنة على أنّ مقطوعة "الطوف الجليدي" Floe 1982)) لـ فيليب غلاس التي استُخدِمت فيها آلة السنثسايرز، قد تنال "إعجاب" بعض مستمعي الموسيقى الإلكترونية كموسيقى الـ"ترانس" (Trance music).

وإذا كانت التكنولوجيا قد ساهمت من ناحية أولى، في زيادة الطابع التجريدي للموسيقى عبر بروز الموسيقى الإلكترونية وما تنطوي عليه هذه الموسيقى من تعقّد الإدراك الحسي عند المستمع، إلا أنها ومن ناحية ثانية، كانت التكنولوجيا أيضاً سبباً في ردم الهوّة المعرفية النظرية بين المستمع والعمل الموسيقي.


التكنولوجيا والمسافة المعرفية النظرية
نظراً إلى كون المادة السمعية تختفي فوراً بعد بيانها أثناء استماعنا إلى عزف أو غناء حي، فالطبيعة المتطايرة للموسيقى لطالما أبهرت الإنسان الذي اعتبرها جوهر الموسيقى وأحد عناصرها الجمالية. لكن مع اختراع الأسطوانة، تمكّن البشر من تسجيل الموسيقى لأول مرة في التاريخ. وفي حين أن الأسطوانة لم تمح تماماً طبيعة الموسيقى المتطايرة، إلا أنها أثبتت أن تطاير اللحظة الموسيقية أمر متغيّر وليس ثابتاً، وأنه مرهون بتغيّر الإمكانيات التكنولوجية.

لقد سمحت لنا تقنيّات التسجيل بردم المسافة المعرفية النظرية بين المستمع/ الناقد والمؤلّف، من حيث أنها فتحت المجال أمام نوع جديد من الاستماع: الاستماع إلى العمل الموسيقي بطريقة واعية تحليلية.

نعطي مثالاً عن ذلك عندما نلحظ المَثَار (motive) المسمّى بـ"صاروخ مانهايم" في بداية كل من السوناتا الأولى لبيتهوفن والحركة الأخيرة من سوناتا "سول مينور" لموزارت. والمَثار هو مجموعة نوتات تتّصف بمميزات موسيقيّة من حيث المسافات (Intervals) أو النموذج الإيقاعي (Rythmic pattern)، وتعاد في لحظات عدة من المقطوعة ما يجعل لها قيمة في الشكل العام للمقطوعة. أما مثار "صاروخ مانهايم" بالذات فهو مجموعة نوتات تفصل بينها درجات موسيقية تصاعدية يلزم أن يقوم العازف بأدائها بأن يزيد مستوى علو صوت الموسيقى كلّما انتقل تصاعديّاً من درجة إلى أخرى في المثار.

ومع تطوّر سبل النشر كالراديو والتلفاز، صار الاستماع الواعي للموسيقى ممكناً للجماهير. ونعطي مثالًا على ذلك، البرامج الموسيقية الغربية التي كان نجماها المؤلف والمحاضر الأميركي الشهير ليونارد برنشتاين الذي قاد الأوركسترا الفلهارمونية في نيويورك من 1959 حتى 1969، وقائد الأوركسترا البريطاني المتميّز سايمن راتل. وفي محاضرتهما التاريخية، بذكائهما وحرفيّتهما الموسيقية والتربوية العالية، حاول كل من برنشتاين وراتل ردم المسافة الإدراكية الحسية بين الموسيقى وما فيها من طابع تجريدي/ سحري من جهة، والمستمع من جهة أخرى.

قدّم راتل سلسلة حلقات بعنوان "ترك الدار" (Leaving home) في تسعينيات القرن الماضي. كان أحد أهداف تلك السلسلة هو دَمقرطة الموسيقى الحديثة الغربية كالموسيقى المؤلَّفة وفق النظرية الموسيقية التسلسلية أو الأدنوية. بعبارة أخرى، كان أحد أهداف تلك السلسلة المتلفزة هو تشريح وشرح الموسيقى الغربية الحديثة للأذن التي لم تألفها مع توضيح ماهية السياق التاريخي والاجتماعي الذي أتت فيه تلك الموسيقى.

فبالإضافة إلى أنّ المحتوى السمعي في الموسيقى الحديثة قد يتّصف بالغرابة مقارنةً مع المواد السمعية التي تتوافق مع المبادئ الموسيقية الكلاسيكية التي كانت قد سادت في أوروبا على مدى قرون، وكان قد تعوّد عليها مجمل الناس، فإنّ الموسيقى الغربية الأكاديمية الحديثة واجهت - وما زالت تواجه - مشكلة عدم تآلف الجمهور الأكبر معها نظراً لأنها تنطوي على مسافة معرفية نظرية بين المستمع والمؤلّف/ المؤدّي أحد أبعادها ثقافي - تاريخي.

أما برنشتاين، فقد أعطى محاضرات موسيقية متلفزة من 1954 حتى 1973عن أنواع مختلفة من الموسيقى، فبالإضافة إلى محاضراته التفكّرية حول الموسيقى الكلاسيكية، تطرّق برنشتاين بشكل عميق إلى الموسيقى التي كانت جديدة آنذاك، أي الروك والجاز. كانت محاضراته موجّهة أحياناً للصغار من أجل تعريفهم على التجريد الموسيقي الكلاسيكي الغربي، وفي أحيان أخرى، كانت موجّهة إلى جمهور الموسيقى الغربية الكلاسيكية بهدف شرح الطاقة الجمالية في موسيقى الروك.

رأينا أن التقنيّة في الموسيقى لها أشكال عدّة، منها ما يتعلّق بالجسد ومنها ما يتعلق بالنظرية الموسيقية، ومنها أيضاً ما يتعلّق بالتقدّم التكنولوجي. لكن على الرغم من أنه بإمكاننا التمييز ما بين أشكال التقنية، إلا أنه لا بد لنا من أن نلاحظ أن الوقائع الموسيقية لا فصل فيها بين أنواع التقنيّة هذه، فالموسيقى الحديثة التسلسلية الإلكترونية فيها تلاقٍ بين التكنولوجيا والنظرية الموسيقية والتدوين، وهي حتماً مرتبطة بزمن ما بعد الأسطوانة. وإذا ما تخلّلها غناء لكانت انطرحت فيها أيضاً إشكالية الجسد بالموسيقى.

رأينا أيضاً أن هذه التقنّيات تنطوي على صدف تاريخية (كتغيير اختراع الأسطوانة من فهمنا للطابع التطايري في الموسيقى)، وهي تتضافر معها في تشكيل علاقة الإنسان بالموسيقى. وقد يكون أسهل علينا التفكير بتعدد أشكال التقنية في الموسيقى إذا ما نظرنا إلى الموسيقى بوصفها فعلاً لا اسماً، أي بوصفها عملاً حياً في عالم اجتماعي فيه مؤلّف وعازف ومستمع، لا بوصفها جماداً كالاسم.

وانطلاقاً من أن الوقائع الموسيقية لا فصل فيها بين أنواع التقنيّة من جهة أولى، وأنها عمل حي من جهة ثانية، نسأل عن ماهية الحدود بين التقنية والجمالية وعن ماهية العلاقة بينهما. فالمغنّي المحترف الذي يغني على الرغم من أوجاعه، ونعني بذلك الأوجاع الفيزيائية التي تتأتى عن أدائه، قد يقدّم أداء بارعاً، لكن هناك احتمال ألا يكون أداؤه محمّلاً بكافة الاحتمالات الجمالية المتاحة له، فيما لو استطاع أن يغنّي مرتاحاً أو من دون آلام فيزيائية. أما التجديد في النظرية الموسيقية، فهو في الوقت نفسه يوسّع الاحتمالات الجمالية (كما في المادة السمعية الإلكترونية)، ويزيد من المسافة النظرية المعرفية بين المستمع والعمل الموسيقي (كما في النسخ الأدائية لمقطوعة رايلي).

في الواقع إن فصلنا ما بين التقنية والجمالية قد يخيب إذا ما تماهى مع نظرة قطبية بسيطة إلى هذين المفهومين. فالتقنية والجمالية غير منفصلتين عن بعضهما في الواقع. لكن إذا ما أخذنا بهما بوصفهما أداتين فكريّتين، تفيدان عمليّاً في صياغة الموسيقى بالكلمات وحسب، آخذين بالاعتبار مدى سعة عالم الموسيقى الاجتماعي، نكون بذلك أكثر دقّة في التعبير عن طبيعة الواقعة الموسيقية.

المساهمون