الموت من الحر... و"المكيّفات" حلم لمسحوقي الدول العربية

الموت من الحر... و"المكيّفات" حلم لمسحوقي الدول العربية

09 اغسطس 2016
شاب عراقي يحاول تبريد نفسه بالمياه(أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -
ماذا يعني أن يموت مئات البشر من الحر في بلدان عربية تنعم بالنفط وبالموارد الطبيعية، أو تتمتع باقتصاد ضخم يحوي 89 مليون نسمة؟ الأجوبة لا يمكن أن تكون تبسيطية، ليست المشكلة بقلة التوجيه ولا بعوامل طبيعية قاسية فقط.

إذ إن الغوص في تفاصيل هذه الظاهرة يُظهر أن أنظمة قررت الانسحاب من دورها الرعائي للمواطنين، وسّعت قاعدة الفقر، ضخّمت جيش المعطلين عن العمل، سهّلت الاحتكار وانتفعت منه، لم تقم بدورها الرقابي على الأسعار وهوامش الأرباح، لتجعل من جهاز التبريد مثلاً، حلماً صعب المنال بالنسبة لآلاف المواطنين.
التحقيق المشترك هذا الأسبوع يبحث هذه الظاهرة في أربع دول عربية: مصر، الجزائر، العراق والمغرب... 

الجيش المصري يتربح من احتراق المواطنين
"لا توجد أجهزة تكييف، يجب المرور على الأقل بعد شهر لتقديم طلب حجز جهاز"، هذه هي الجملة التي ستسمعها داخل أكبر متاجر بيع الأجهزة الكهربائية في مصر عند السؤال عن رُكن أجهزة تكييف الهواء.

هناك أسباب عدة لاختفاء أجهزة التكييف، في دولة شهدت تغيراً حاداً في مناخها حتى وصلت حرارة الصيف إلى 55 درجة مائوية في بعض الأيام، ولا تقل عن 40 درجة مائوية خلال بقية أيام الصيف. وذلك تحت وطأة منابع التلوث المُتعددة من عوادم السيارات والمصانع القائمة داخل التكتلات السكانية، فضلاً عن التكدس السكاني في مناطق الضيقة.
يوضح مسؤول المبيعات في إحدى كبرى شركات بيع أجهزة التكييف لـ "العربي الجديد" أن "عجز الشركات عن تدبير الدولار لاستيراد أجهزة التكييف سواء في صورة مكونات لتجميعها أو مُصنعة بالكامل بالخارج، أدى إلى تأخر توقيت التعاقد على شحنات أجهزة تكييف الهواء". 

ويضيف أن "الأمر لم يعُد يقتصر على ندرة أجهزة التكييف فقط، إذ شهدت الأسعار طفرة بالغة، خصوصاً بعدما أصدر رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي قراراً برفع نسبة الرسوم الجمركية على استيراد أجهزة التكييف إلى 40 في المائة على أساس أنها سلع ترفيهية".

هذا القرار أسهم في بلوغ أسعار التكييف مستويات فلكية.

فعلى سبيل المثال ارتفع متوسط سعر جهاز تكييف بقدرة 1.5 كيلوواط من 4300 جنيه إلى قرابة 6 آلاف جنيه، وقفز سعر الجهاز بقدرة 2.25 كيلوواط من متوسط 5 آلاف جنيه إلى 7200 جنيه، وسعر الجهاز بقدرة 3 كيلوواط من 6 آلاف جنيه إلى أكثر من 8 آلاف جنيه.

ربما هذا القرار لم يُفهم إلا بعد مرور 5 أشهر عليه. ففي 1 يونيو/حزيران الماضي، أعلنت وزارة الإنتاج الحربي عن الحصول على توكيل توريد أجهزة تكييف صينية "لمحاربة الغلاء والتخفيف على المواطنين". وأصبح كل مواطن يعلم أن المسؤول الأول عن الغلاء هو قرار رئيس الجمهورية، غير أنه بدا واضحاً أنه كان بوابة لاقتحام الجيش "بزنس" التوكيلات التجارية التي تلقى رواجاً في السوق المصرية.

والدليل على الربحية العالية التي يؤمنها هذا "البزنس" للمؤسسة العسكرية، أن سعر بيع جهاز التكييف الذي أعلنت عنه بقيمة 4900 جنيه، يُباع هو ذاته على موقع الشركة الصينية بسعر 200 دولار أي بحوالي 1775 جنيهاً فقط. وبالطبع لا تدفع وزارة الإنتاج الحربي رسوماً جمركية أو ضرائب على مبيعاتها بعكس بقية الشركات، حتى تُبرر هذا الفارق بين سعر الاستيراد وسعر المبيع للمواطنين.

هكذا، إذن، لم يعد أمام المواطنين سوى الاكتواء بحرّ الصيف الملتهب، حيث يقول الموظف محمود زكي لـ "العربي الجديد": "كنت أنوي شراء جهاز تكييف واستطعت ادخار المبلغ على أساس أسعار العام الماضي، ولكن قفزة الأسعار حالت دون ذلك، سأضطر للانتظار حتى نهاية فصل الصيف على أمل انخفاض الأسعار". هذا وقد تسببت موجة الحر حتى اليوم بمقتل أكثر من 80 مواطناً مصرياً، ونقل المئات إلى المستشفيات لإصابتهم بأمراض مرتبطة بالحر.


الجزائر: مناطق متروكة للحر
لم يسبق لدرجات الحرارة في فصل الصيف أن أودت بحياة المواطنين الجزائريين مثلما فعلت هذا العام.
إذ توفي، حتى اليوم، ما لا يقل عن 42 شخصاً من جرّاء موجة الحر الشديدة التي تجتاح البلاد على فترات منذ نهاية يونيو/حزيران الماضي، وغالبية هؤلاء الضحايا من المدن الصحراوية، كعين صالح وادرار، التي تصل درجة الحرارة فيهما حد الـ 60 درجة، فيما تبتلع الوديان والسدود والبرك المائية سنوياً ما لا يقل عن 50 شخصاً من الهاربين من حرارة الصيف ممن تعذر عليهم بلوغ الشواطئ.


يقول يونس، أحد سكان ولاية إدرار الصحراوية، لـ "العربي الجديد" إن الحرارة في هذه المدينة تصل أحياناً إلى الستين درجة، وهنا لا يملك البسطاء إلا الصبر لاحتمال حرارة الجو داخل بيوتهم، خاصة أولئك الذين لا تصل إلى بيوتهم الكهرباء ليستخدموا المروحة الكهربائية الأقل ثمناً من المكيّفات. فتجدهم يلجؤون إلى بيوتهم التقليدية المبنية بالطين، فيبللون أرضيتها بالمياه إلى أن تتراجع درجات الحرارة، بينما من يملك مكيف هواء فيبقيه شغالاً طوال اليوم، ولا يبالي بالفاتورة.

وفيما يزيد وبشكل لافت الإقبال على اقتناء أجهزة التكييف خلال الصيف، إلا أن الأمر لا يخلو من خطر تهديد حياة مستعمليها، خصوصاً تلك المقلدة رخيصة الثمن، التي لا تراعي شروط السلامة.

من جهته، يلفت رئيس الجمعية الوطنية لإرشاد المستهلك وحمايته مصطفى زبدي إلى أن ظاهرة اقتناء مكيفات هواء بنوعية رديئة تنعكس سلباً على صحة المواطن، وعلى حجم استهلاك الطاقة الكهربائية، الأمر الذي يضاعف فاتورة الكهرباء أكثر فأكثر، خاصة بعد رفع أسعارها على خلفية سياسة التقشف التي تتبعها الحكومة في السنة الحالية. ومع ذلك تبقى أسعارها متدنية جداً، حيث لا يتعدى سعر الكيلوواط 0.016 دولار في الاستهلاك الذي يقل عن 125 كيلوواط، و0.03 دولار للكيلوواط بالنسبة للكهرباء المستهلكة فوق حد الـ 125 كيلوواط.
والحال أن الارتفاع الكبير في حجم استهلاك الطاقة في الجزائر دفع بشركة "سونلغاز" للكهرباء والغاز إلى تعمد قطع التيار الكهربائي عن أحياء ومدن معينة. ويوضح أحد مسؤولي هذه الشركة رفض الكشف عن اسمه، أنه وعند بلوغ الاستهلاك حده الأقصى نضطر إلى قطع الكهرباء على الأحياء والمدن الأكثر فقراً والأقل أهمية اقتصادية. ويضيف أن استهلاك الطاقة الكهربائية خلال السنوات الأخيرة شهد ارتفاعاً قياسياً بسبب الإقبال الكبير على اقتناء أجهزة التكييف والاستعمال المفرط لها، خاصة في أوقات الذروة.


العراق: الضحية الفئة الأفقر
أما في العراق، فمعاناة الفقراء كبيرة جداً، مع وصول درجات الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مائوية، وذلك نتيجة ضعف التغذية بالتيّار الكهربائي وارتفاع أسعار المكيفات.

وتتضح قسوة المشهد بشكل أوضح، إذا علمنا أن عدد الفقراء في العراق بحسب تقديرات الحكومة يبلغ عشرة ملايين شخص، بينهم 7 ملايين تحت خط الفقر الأدنى نتيجة النزوح الكبير في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى بعد سيطرة تنظيم "داعش" عليها وخسارة الغالبية أعمالهم.


يقول المواطن محمد الدليمي لـ "العربي الجديد" إنه نزح من محافظة الأنبار منذ بدأت العمليات العسكرية، مشيراً إلى أن "الوضع صعب جداً إذ نفتقد الكهرباء ونواجه حر الصيف بالوسائل البدائية ومنها رش المياه على أجسادنا"، مضيفاً أن "المخيم الذي نعيش فيه حالياً في منطقة صحراوية ودرجة الحرارة عالية جداً حيث تعرض العديد من الأشخاص إلى الإغماء بسبب الحرارة وبعضهم توفي خصوصاً كبار السن والأطفال".

من جهته، يقول مرتضى الربيعي إن "أجهزة التكييف لا يمكن استخدامها لأن أسعارها غالية جداً، ونحن غير قادرين على تأمين لقمة العيش"، مضيفاً أن "أجهزة التبريد تحتاج إلى تيار كهربائي عال وهذا الأمر يحتاج إلى أموال".

ويلفت الربيعي، الذي يسكن في إحدى العشوائيات في العاصمة بغداد، إلى أنه لا يدفع للحكومة العراقية فواتير المؤسسة الرسمية للكهرباء، وإنما فقط للمولدات الأهلية التي تطلب اشتراكاً شهرياً يعادل 24 دولاراً.

ويقول صاحب محل أجهزة كهربائية في منطقة كرادة مريم وسط بغداد لـ "العربي الجديد"، إن "أسعار الأجهزة الكهربائية ارتفعت بعد فرض التعرفة الجمركية عليها من قبل الحكومة"، مشيراً إلى أن "العائلات تتحفظ حالياً عن شراء الأجهزة الكهربائية لأن أسعارها تتراوح بين 300 دولار إلى أربعة آلاف دولار حسب نوعية الجهاز".

ويلفت إلى أن "العائلات الفقيرة تلجأ إلى استخدام المبرّدات الهوائية التي تعمل على التيار الكهربائي المجهز من المولدات الأهلية، وهي رخيصة إذ تراوح أسعارها ما بين 50 ألف دينار (39 دولاراً) و300 ألف دينار (234 دولاراً)".

المغرب: لا مكيف مع أجر زهيد
يعدّ امتلاك مكيف هواء في كثير من مدن المغرب ترفاً، ويكاد يكون التفكير في الموضوع ضرباً من الخيال. والحال أن نسبة كبيرة من المواطنين بالكاد تتمكن من توفير تكاليف الفواتير المرتفعة للكهرباء التي تثقل كاهل الأسر، خاصة مع التغيير الأخير الذي أقرته الحكومة، بتنسيق مع المكتب الوطني للكهرباء، بخصوص نظام الشطور وأسعار بيع الكهرباء، والذي دخل حيز التطبيق شهر من عام 2014.


"تريد الصراحة؟ لم أفكر يوماً في امتلاك جهاز تكييف في منزلي، لسبب بسيط هو أنني لا أقوى على تحمل تكاليفه"، يقول أحمد بنجيلالي، من دوار القدميري بمديونة، إحدى ضواحي مدينة الدار البيضاء.

ويضيف: "بالكاد أتدبر مصاريفي اليومية، ولم أفكر يوماً حتى في اقتناء مروحة هوائية لتلطيف الجو بمسكني القصديري، الذي نقلتنا إليه السلطات مؤقتاً بعد الحريق الذي شب في حينا الصفيحي قبل 5 سنوات. ولكم أن تتخيلوا حياتنا في هذا الصيف تحت سقف قصديري وغرف لا تتجاوز مساحتها 3 أمتار مربعة".

بنجيلالي، مثالٌ للآلاف ممن يعجزون عن تملك سكن بسبب تعقيدات إعادة إيوائهم التي تطول لسنوات، ولهذا فهو مضطر لتحمل سوء الأحوال الجوية على مدار السنة، وفي الصيف حيث تتجاوز درجات الحرارة 45 درجة مائوية.

ويشرح: "أنت ترى كيف نحاول تلطيف الجو في هذه الغرفة بوسائل بدائية. هذه السنة غالباً ما نقضي ليالينا في الخارج حتى وقت متأخر بسبب استحالة النوم في أجواء حارة، لكن حتى لو انتقلنا لسكننا الجديد فلا أعتقد أن امتلاك مكيف سيكون من أولوياتي، هذا ترف لا يمكنني أن أتحمله".

ويوضح وكيل مبيعات لدى علامة آسيوية متخصصة في التجهيزات الإلكترو-منزلية الزيتوني الهادي لـ "العربي الجديد" أنه "من الضروري التأكيد أن سوق المكيفات تتطور تبعاً لعدد المشاريع المبرمجة خلال كل سنة، وهو ما يمثل 50 في المائة من القيمة السوقية، أمّا بالنسبة إلى السوق بصفة إجمالية، فإن التقديرات تشير إلى مبيعات تفوق 160 ألف وحدة".

عموماً، تبلغ أسعار مكيفات الهواء في المتوسط قرابة 400 دولار، مع تسجيل اختلافات في الأسعار بحسب العلامات، وما إذا كان الجهاز أصلياً أم من منتوجات الصين التي غزت الأسواق، هذا دون احتساب تكاليف تركيب الأجهزة وصيانتها الدورية.

ويوضح الهادي: "على العموم يظل سعر الأجهزة مرتفعاً، ولهذا يمكننا الجزم بأن الطريق لا يزال طويلاً أمام هذا القطاع، بالنظر إلى ارتفاع أسعاره، ما يشكل حاجزاً كبيراً أمام ذوي المداخيل المنخفضة، بسبب معدل الأجر الأدنى الذي لا يتجاوز 2600 درهم في الشهر (حوالي 260 دولاراً)".


*شارك في التحقيق: أحمد عز (مصر)، محمد ابو عبد الله (الجزائر)، سلام زيدان (العراق). أحمد اليزيد (المغرب) 

المساهمون