الموت طقس إيديولوجيّ في تونس

الموت طقس إيديولوجيّ في تونس

01 فبراير 2020

ناشطات تونسيات يتقدمن جنازة لينا بن مهني (27/1/2020/فرانس برس)

+ الخط -
لينا بن مهنّي شابّة تونسيّة، وُلدت في أسرة يساريّة سنة 1983، وأصيبت بمرض عضال في طفولتها فقاومته بصبر، وعُرفت قبل الثورة بتدويناتها في مدوّنتها "بنيّة تونسيّة"، وبدفاعها عن الحريّة ومعارضتها سياسة حجب المواقع الإلكترونيّة. ثمّ توفّيت، رحمة الله عليها، يوم 27 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، وأقيمت لها جنازة كبيرة، حُمل فيها النعش على أكتاف النساء، وردِّدت فيها الشعارات السياسيّة والأغاني والنشيد الوطنيّ.
وقد سارع الإسلاميّون إلى الترحّم عليها وتعزية أهلها، وأصدرت حركة النهضة في صفحتها في "فيسبوك" تعزية رسميّة باسمها، فلينا شخصيّة عامّة فرضت، بتدويناتها وكثرة نشاطها، تفاعلا سريعا مع حدث وفاتها، ودعاءً لها بالرحمة. ويمكن النظر إلى تعازي الإسلاميين من هذه الجهة. ولكنّهم قوبلوا بموقف "يساريّ" رافض، خلاصتُه أنّهم ليسوا صادقين في شعورهم، بل يتظاهرون بالحزن ومواساة الأسرة، وغايتُهم ركوب الحدث، وتسجيلُ موقف سياسيّ، فهم الذين هاجموا لينا في حياتها، وسلّطوا عليها "ذبابهم الأزرق". وازداد الشرخ عمقا ببلاغ (بيان) في "فيسبوك" أخرجه أصدقاء العائلة، وجاء فيه: "ندعو إلى جنازة وطنيّة شعبيّة تجمع كلّ القوى الديمقراطيّة والتقدميّة التونسيّة والدوليّة، وكلَّ من وقف إلى جانب لينا خلال كامل مسيرتها الحقوقيّة والنضاليّة. واحتراما لها ولنضالها نعتذر للآخرين". وقد أثارت الجملة الأخيرة جدلا طويلا، واتّهِم من أصدر البلاغ بتقسيمِ الشعب التونسيّ، وتصنيفِ الناس إلى ديمقراطيّين تقدّميّين، وآخرين رجعيّين، في مقامٍ ينبغي أن يكون موحّدا للتونسيّين. ثمّ قيل إنّ العائلة لا علاقة لها به، لكنّ الانقسام وقع.
الصورة الجميلة في تجربة لينا رسمتْها مقاومتُها المرض المزمن الذي أصابها منذ طفولتها، فظلّت تصارعه وتكيّف حياتها ليستمرّ نشاطها ونجاحها، ومطالبتُها بالحرّية والعدالة ومواجهتُها 
الاستبداد. وليس مهمّا البحث في مطابقة هذه الصورة الواقع مطابقة تامّة، ولا فائدة في قول بعض الإسلاميّين إنّها لم تتعرّض للقمع، وإنّ تسميتَها أيقونة النضال وتلقّيَها تعزية رئاسيّة وتكريمَها بجنازة وطنيّة ظلمٌ يستثني نساء الإسلاميّين اللائي سُجِنّ وعذّبن، فالغرض ليس محاسبتها، بل صناعةُ مثال للقوّة والصبر والبطولة والإيثار، تشكّله سِير شباب تونسيّين من مختلف الاتّجاهات الفكريّة السياسيّة، ويخرج رموزه، ومنهم لينا، من المعارك الصغيرة التي خاضوها في حياتهم، ويبقى منهم البعد الوطنيّ الملهمُ الجامعُ. .. هذه الصورة الجميلة حجبها خلاف عقيم تداخلت فيه ثلاثة مواقف:
الأوّل: وهو أكثرها رصانة واعتدالا، عبّر عنه المواطنون العاديّون الذين يستنكرون حملَ النساءِ النعشَ ودخولَهنّ إلى المقابر، وهذه مسألةٌ تقبل النقاش في مقام مناقشتها، لا في الجنائز والمقابر. ويرفضون الاستهانةَ بشعور المسلمين، وتخطّيَ قبور موتاهم، وهذا حقّ لا يختلف فيه الناس. فلا بدّ إذاً من الفصل بين تشييعِ الجنازة، بما فيه من إكرام للميت واحترام للمجتمع، والتأبينِ بأشكاله التعبيريّة التي يختارها المشيّعون وينظّمونها خارج المقبرة. ولن يضيق على أهل الميت مجالُ اختيار كيفيّة التأبين، فتاريخُ العرب المعاصر كتابةٌ للألم بالخطب والأشعار والأهازيج. وهذا الموقف هو المترجم وجدان جمهور المواطنين الذين لم تلوّثهم الإيديولوجيا، فعبّروا عن رأيهم بثقافةٍ تونسيّةٍ يمتزج فيها الدينيّ بالثقافيّ المحلّي.
الثاني: دينيّ متطرّف، يتّهم أصحابُه لينا بأنّها يساريّة ملحدة، ويقطعون بأنّها من أهل النار الذين لا يدخلون الجنّة. واستعان أصحاب هذا الموقف بما جرى في تشييع الجنازة، فجعلوا يقسمون رحمة الله بين مؤمن مبشّر بها وكافر لا يجد ريحها. وقفز الجدل القهقرى قرونا عديدة، وانطمست فيه جميع مفاهيم الدولة المدنيّة.
الثالث: مثّله المدافعون عن جنازة لينا كما نُظّمت، وهم أصوات متعدّدة اجتمعت على تصفية خلافاتٍ إيديولوجيّة مع جهات متنوّعة، فمنهم من استخدم المناسبة لتحدّي الفقهاء الذين ضبطوا شعائر تشييع الجنازة والدفن، ووصفوا كيفيّة حمل النعش، ومن يحمله، ومن يجوزُ له دخول المقبرة، ومن لا يجوز. وليس في هذا الأمر غرابة، إذ لا يخلو دينٌ من طقوس للموت. وقد انتهت سلطة الفقيه على المقابر في تونس منذ زمن، وصار يدفن فيها اليوم المؤمن وغير المؤمن وشارب الخمر ومدمن المخدّرات والسارق .. من غير أن يثير ذلك اعتراض أحد. والفقهاء (من أهل السنّة) الذين يتخيّلهم خصومهم، ويتحدَّوْنهم، يكرّرون أنّ نجاة الميت رهينة برحمة ربّه وبعمله في الدنيا، فلذلك يقولون في ميت المسلمين إنّه أفضى إلى ما عمل، ويدعون له بالرحمة، فما الفائدة في تحويل تشييع الجنازة إلى تحدّ للفقهاء؟ ألا يمكن أن يؤدّي هذا التحدّي الذي يرفع شعار الحداثة إلى طائفيّةٍ جديدة؟ فيطالب المواطنون العاديّون بأن يكون لليسار مقابره الخاصّة التي يمارس فيها طقوسه على طريقته.
ومنهم من شنّ الحملة على حركة النهضة، ووصفها بالرجعيّة، وذمّ "ذبابها الأزرق"، وهي 
العبارة التي تستعمل لوصف جيش "النهضة" الإلكتروني. ومنهم من أرسل رسائل نسويّة، فحملت النساءُ النعشَ، ورفعن شعارين نسويّين لا صلة لهما بالحدث: "مساواة مساواة للنساء والجهات" و"نسويّات ثوريّات ضد كل الرجعيّات". ومنهم من كرّر شعاراتٍ سياسيّة قديمة، ومنها: "يا لينا ارتاح ارتاح سنواصل الكفاح"، "أوفياء أوفياء لدماء الشهداء"، "سنمضي سنمضي إلى ما نريد وطن حرّ وشعب سعيد"، "شغل حرّيّة كرامة وطنيّة"، "ماهيش مسامحه ماناش مسامحين" (لن تسامح ولن نسامح، في إشارة إلى حملة "مانيش مسامح" التي عارضت قانون المصالحة، ولكنّه أجيز في مجلس النوّاب سنة 2017 بالتوافق بين حركة النهضة وحزب نداء تونس). وتخلّل هذه الشعاراتِ السياسيّة الغناءُ والتصفيق الجماعيّ والنشيد الوطنيّ.
لقد أصبحت جميع المناسبات في تونس فرصةً لصناعة الانقسام، وتشكيل عدوّ متخيّل، يسيطر على تاريخ البلد وثقافته، ولا يؤمن بالتعدّد، ويعمل لإبادة كلّ مخالفٍ دينيّ أو مذهبيّ أو سياسيّ.. ويعمد صنّاع الانقسام إلى شحن القلوب بالضغينة، وإقامة جدران الفصل الإيديولوجيّ، واستهلاكِ أنموذجٍ في التحرّر يعني مواجهةَ الدين والمجتمع والأحزاب السياسيّة، أو استهلاكِ أنموذجٍ في التديّن يقسم رحمة الله بمزاج الناس. ولهذا الداء المُقِيم أسباب كثيرة، أهمّها اثنان:
الأوّل، أنّ كلّ شيء في تونس اليوم موضوع اختلاف، ولا يكاد يوجد أمرٌ واحدٌ عليه إجماع بين 
الاتّجاهات الفكريّة السياسيّة: الهويّة والتاريخ والدين والانتماء واللغة والاقتصاد والسياسة والتعليم والأسرة والمرأة والجنس... ليس منها إلّا موضوع اختلاف، مخالفةً في الرؤية والمنهج والاستنتاج، أو مناكفةً ومهاترةً، وهي الغالبة. ولا توجد في البلد مرجعيّة تجمع التونسيّين، حتّى الدستور والنصوص القانونيّة والتشريعيّة لا تسلم من الانتهاك. والخلاف الذي جرى في كيفيّة تشييع لينا ليس مشكلة يسارٍ أصبح عاجزا عن تشخيص مصلحته، فلو أنّ مشيّعيها خطّطوا لاستمالة الناس بجنازةٍ تحترم التقاليد لكان تخطيطهم توظيفا سلبيّا، يستثمر الموت، ويحوّل شعائر الدفن إلى حملة علاقاتٍ عامّة، وإن هو حسّن صورة اليسار عند الناس. وليس الخلافُ أيضا مشكلة إسلام سياسيّ مخاتل، ولا تديّن متطرّف، بل مشكلة وطنٍ السلطةُ والمرجعيّةُ فيه سائلتان. فلذلك عجزت الأحزاب، في كلّ مرّة، عن صناعة مثال وطنيّ يتجرّد من الانتماء الخاصّ، ويوحّد التونسيّين، سيّما الشباب، على قيمة ورمز مدنيّين.
والثاني، أنّ النخبة التي تقود البلاد اليوم طائفيّةٌ لم تلتقِ اتّجاهاتُها إلّا في ميادين السجال والنزال، فهي التي أنتجتها الجامعة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وكانت الجامعة يومئذ ساحةَ سجال إيديولوجيّ عقيم، وميدانَ اقتتال بين الطلبة. ولم تستطع هذه النخبة إعادة تنسيق (formatting) أدمغتها بعد الثورة، لمحو البرمجيّة الإيديولوجيّة القديمة. وسيظلّ هذا الجيل المثخن بجراح الإيديولوجيا يستعذب تعذيب نفسه ووطنه، كالجريح يؤلمه جرحه ويحكّه...
والرهان كلُّه على أصحاب الموقف الأوّل من مختلف الاتّجاهات الفكريّة السياسيّة، وهم الذين لم تلوّثهم الإيديولوجيا، والذين عاشوا تجربتها وتجاوزوها، فعليهم تقع مسؤوليّة صناعة سرديّة جديدة، تُصاغ من مُهجة الشعب وخالص ثقافته.

A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.