المواجهة الإيرانية الأميركية بعد الهجمات على ناقلات النفط

المواجهة الإيرانية - الأميركية بعد الهجمات على ناقلات النفط.. إلى أين؟

17 يونيو 2019

زورق إيراني قرب "فرونت ألتير" النرويجية/ خليج عمان(13/6/2019/فرانس برس)

+ الخط -
تعرضت ناقلتا نفط، صباح 13 يونيو/ حزيران 2019، لهجمات في بحر عُمان بالقرب من السواحل الإيرانية، تحمل الأولى علم بنما والثانية علم جزر مارشال، أدت إلى اشتعال النار فيهما. وكانت الناقلتان تحملان شحنات من المشتقات النفطية السعودية والإماراتية في طريقهما إلى شرق آسيا. لم تؤدِّ الهجمات إلى خسائر بشرية. لكن، حمّلت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا إيران المسؤولية عنها، ووصف وزير الخارجية الأميركي الهجمات بأنها "تمثّل تهديدًا واضحًا للأمن والسلم الدوليَين، وهجومًا فاضحًا على حرية الملاحة وتصعيدًا للتوترات من جانب إيران غير مقبول". وهو اتهام رفضته إيران. وهذه المرة الثانية التي تتعرض فيها ناقلات نفط لهجمات في بحر عمان خلال شهر، ففي 12 مايو/ أيار 2019 تعرضت أربع ناقلات نفط تحمل أعلامًا سعودية وإماراتية ونرويجية لهجمات ألحقت بها أضرارًا طفيفة، قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي. وقد أدت الهجمات الأخيرة إلى زيادة مستوى التوتر بين إيران والولايات المتحدة، الذي يتصاعد باضطراد منذ قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018.
الاستراتيجية الأميركية
تسعى الولايات المتحدة إلى تشديد ضغوطها على إيران، في إطار ما يسمى استراتيجية الضغوط القصوى Maximum Pressure لإجبارها على إعادة التفاوض على الاتفاق النووي، الذي تعده إدارة ترامب غير كافٍ للَجم طموحات إيران الإقليمية و"نزوعها نحو الهيمنة". وبناء عليه، بعدما قرر الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، شرعت
واشنطن في فرض عقوبات متصاعدة على إيران بدأتها باستهداف قطاعها النفطي والمصرفي في أغسطس/ آب 2018، ثم قامت بفرض حظر على تصدير النفط الإيراني، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، استثنت منه ثماني دول مدة ستة أشهر، انتهت مطلع مايو، على نحوٍ أدى إلى خفض صادرات إيران النفطية من 2.5 مليون برميل يوميًا إلى نحو 400 ألف برميل يوميًا في مايو 2019، علمًا أنّ إيرادات النفط تمثّل نحو 40 في المئة من إجمالي إيرادات الموازنة العامة الإيرانية. كما فرضت واشنطن عقوباتٍ إضافيةً على قطاع التعدين الإيراني (يمثل 10 في المئة من إجمالي صادرات إيران)، أعقبتها بعقوبات على قطاع البتروكيميائيات (تقدر قيمة صادراتها بنحو 14 مليار دولار سنويًا)، وذلك بعدما قامت في إبريل/ نيسان 2019 بتصنيف الحرس الثوري الإيراني بوصفه منظمة إرهابية أجنبية.
ولمنع أي رد فعل إيراني على هذه الإجراءات غير المسبوقة التي تستهدف اقتصاد إيران ونظامها، قامت الولايات المتحدة بتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، في إطار استراتيجية ردع لدعم إجراءات الحصار. وبناء عليه، قامت وزارة الدفاع الأميركية بتعزيز قدراتها ووجودها العسكري في المنطقة تدريجيًا، فأرسلت في 9 مايو 2019 حاملة الطائرات "يو أس أس أبراهام لنكولن" مع مجموعتها القتالية البالغ عددها 27 قطعة بين بارجة ومدمرة وغواصة. كما أرسلت في اليوم نفسه أربع قاذفات من طراز B-52 قادرة على حمل أسلحة نووية إلى المنطقة.
وفي اليوم التالي، تم إرسال البارجة الحربية "يو أس أرلينغتون" المصممة لنقل قوات مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، مع عربات برمائية ومعدات ومروحيات قتالية، وبطارية صواريخ باتريوت على متنها، وهي منظومة صواريخ دفاعية اعتراضية ضد الطائرات الحربية، والطائرات من دون طيار، فضلًا عن صواريخ كروز والصواريخ الباليستية التكتيكية. بالتوازي مع تعزيز القدرات العسكرية الأميركية في المنطقة، قام الرئيس ترامب وأركان إدارته بتوجيه رسائل إلى إيران تحمل المعنى نفسه. إذ هدد ترامب إيران "برد فعل مدمر" في حال استهدفت الوجود الأميركي أو المصالح الأميركية في المنطقة، بينما أصدر مستشار الأمن القومي، جون بولتون، بيانًا قال فيه إن إرسال الحاملة لنكولن مع مجموعتها القتالية لتكون تحت قيادة "القيادة المركزية الوسطى" يهدف إلى "إيصال رسالة واضحة لا لبس فيها للنظام الإيراني بأن أي هجوم على المصالح الأميركية أو مصالح حلفائنا سيتم التعامل معه بقوة". أما وزير الدفاع بالوكالة باتريك شاناهان فقد شدد على أن أيّ هجوم إيراني على الولايات المتحدة أو مصالحها "سيقابل بردٍ مناسب".
الاستراتيجية الإيرانية
ردّت إيران على استراتيجية الحصار الأميركية المدمرة، نظرًا إلى تأثيراتها على الاقتصاد الإيراني، على مستويين: ففي المستوى الأول، هددت بأنها إذا منعت من تصدير نفطها فإنها لن تسمح للآخرين بتصدير نفطهم، وجرى تفسيره بأنه تهديد بإغلاق مضيق هرمز أو باستهداف
ناقلات النفط التي تمر عبره. أما المستوى الثاني فيتصل بالتزامات إيران وفق الاتفاق النووي؛ إذ أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني، في 8 مايو 2019، أنّ بلاده ستتراجع عن تنفيذ بعض التزاماتها في الاتفاق النووي، وهدد باستئناف تخصيب اليورانيوم بمستويات عالية بعد ستين يومًا وإعادة تشغيل مفاعل آراك النووي، إن لم تفِ الدول الأخرى الموقّعة على الاتفاق بتعهداتها لطهران بحماية قطاعَيها النفطي والمصرفي من العقوبات الأميركية. كما أعلن وقف إيران عمليات بيع اليورانيوم المخصب والماء الثقيل. وينص الاتفاق النووي على قيام إيران بخفضٍ مستمر لمخزونها من اليورانيوم المخصب (بنسبة 3.67 في المائة)، بحيث لا تزيد كميته في أي وقت عن 300 كيلوغرام، وألّا يزيد ما تمتلكه من الماء الثقيل عن 130 طنًّا.
يشير عديد من التقارير الدولية إلى أن العقوبات الأميركية كان لها تأثير أكبر بكثير مما كان متوقّعًا في الاقتصاد الإيراني، إذ تراجع سعر العملة الإيرانية على نحو بعيد مقابل الدولار، في حين قدّرت نسبة التضخم بـ40 في المائة هذا العام. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن الاقتصاد الإيراني انكمش بنسبة 3.9 في المائة عام 2018، ويتوقع أن ينكمش بنسبة 6 في المائة هذا العام، علمًا أنّ التقرير صدر قبل أن تدخل عقوبات النفط حيز التنفيذ، مطلع مايو 2019، وقبل العقوبات الأميركية اللاحقة على قطاعَي التعدين والبتروكيميائيات الإيرانيَين.
أمام هذا الواقع الصعب، من غير المتوقع أن تقف إيران مكتوفة الأيدي من دون رد فعل على محاولات خنقها اقتصاديًا، وهو جوهر الاستراتيجية الأميركية لدفعها إلى الاستسلام لمطالبها الجديدة المتعلقة بإعادة التفاوض على برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي ونفوذها الإقليمي. وبحسب تحليل قدّمته وكالات استخباراتية أميركية، قد يكون النظام الإيراني، أو على الأقل تيارٌ فيه، يسعى إلى استدراج الولايات المتحدة إلى عمل عسكري محدود، ليرفع شعبيته داخليًا، ويعزز موقفه الاستراتيجي خارجيًا. ويعدّ هذا التحليل مناقضًا لتحليل أميركي سابق مفاده أن طهران ستحاول تحمّل العقوبات الأميركية والمناورة حولها حتى يحين موعد الانتخابات الأميركية القادمة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 على أمل أن يخسر ترامب ويفوز رئيس جديد تستطيع التعامل معه. لكن وفق هذا التحليل، فإن وطأة العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب قد تكون دفعت الإيرانيين إلى تغيير استراتيجيتهم والتركيز على محاولة استفزاز عمل عسكري أميركي محدود، وذلك عبر تهديد مصالح أميركا، ومصالح حلفائها في المنطقة، بما يشمل الإغلاق الجزئي لمضيق هرمز الذي يمر منه نحو ثلث الخام المنقول بحرًا في العالم، أو عبر استهداف السفن التجارية، بما في ذلك ناقلات النفط، أو حتى السفن العسكرية الأميركية في البحر الأحمر أو مضيق باب المندب أو الخليج العربي. ولكن هذا التحليل يتجاهل استراتيجية إيرانية معلنة ألّا تكون الوحيدة المتضررة من الحصار، وسلوكًا إيرانيًا واضحًا يتجنب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة؛ فإيران لا يمكنها التحكم في حجم رد الفعل الأميركي، وهو التحكم الذي تتطلبه استراتيجية استدراج رد الفعل.
"استهداف" الوساطة اليابانية
تزامنت الهجمات التي وقعت على ناقلتي النفط في بحر عمان مع زيارةٍ كان يقوم بها إلى طهران رئيس الحكومة اليابانية، شينزو آبي، نقل خلالها رسالة حمّله إياها الرئيس ترامب خلال زيارته إلى طوكيو منتصف مايو 2019، وعرض فيها تطمينات بأنّ واشنطن لا تسعى إلى
الحرب، ولا إلى تغيير نظام الحكم في طهران، بل تريد التفاوض معه على اتفاق جديد بدلًا من الاتفاق الذي انسحبت منه. وقد أثار تزامن الهجمات مع الزيارة جدلًا وتكهناتٍ حول الجهة المسؤولة عن الحادثة، التي جرى تفسيرها على نطاق واسع بأنها محاولة لتخريب جهود الوساطة اليابانية، خاصة أن الناقلتين المستهدفتين كانتا في طريقهما إلى اليابان. وقد اتهمت إيران التي نفت التهمة عن نفسها، أطرافًا ثالثة قالت إنها تريد رفع مستوى التوتر بينها وبين واشنطن، ووجهت أصابع الاتهام إلى كل من الإمارات والسعودية وإسرائيل باعتبارها الأطراف الأكثر حماسة لوقوع مواجهة أميركية مع إيران. وزاد من ضبابية المشهد الجدل الذي دار حول كيفية استهداف الناقلتين، إذ يفيد الشريط المصور الذي بثّه البنتاغون وجود زورق إيراني يحاول إزالة لغم من جسم إحدى الناقلتين، في حين تفيد شهادات البحارة بأنّ جسمًا طائرًا (طوربيد على الأرجح) هو الذي أصاب الناقلة. وباستثناء بريطانيا، لم يتبنَّ أيّ من الدول الموقعة على الاتفاق النووي الرواية الأميركية، إذ رأت ألمانيا أن الشريط الأميركي المصور لا يعدّ دليلًا كافيًا على أنّ إيران هي المسؤولة، بينما دعت روسيا والصين إلى عدم التسرع في تحديد المسؤوليات، والتزمت فرنسا الصمت. أمّا الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة فقد دعا إلى تحقيقٍ مستقل لتحديد المسؤول عن الهجمات. وهو ما تطالب به إيران.
تجد الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في حشد دعم دولي ضد إيران لسببين؛ الأول، لأنها الطرف الذي أخلّ بالتزاماته بموجب الاتفاق النووي بانسحابها منه، وهو الاتفاق الذي تؤكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية التزام إيران به، ومن هنا، فإن الأطراف الأخرى الموقّعة على الاتفاق تعتبر إدارة ترامب مسؤولة عن الأزمة الحالية. ويتمثل السبب الثاني في أن الولايات المتحدة تعاني أصلًا مشكلة صدقية بسبب المزاعم الكاذبة التي استخدمتها لتبرر غزوها العراق عام 2003.
خاتمة
رفعت الهجمات على ناقلات النفط التوتر الأميركي - الإيراني إلى مستويات جديدة، خاصة بعدما أرسلت الولايات المتحدة المدمرة "يو أس أس ميسون" إلى مكان الحادث الذي يبعد بضعة كيلومترات عن السواحل الإيرانية، وكشفت عن محاولات إيرانية لإسقاط طائرة مسيّرة أميركية كانت موجودة في المنطقة قبل استهداف الناقلتين. لكن الواضح حتى الآن أنّ إدارة ترامب لا ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران. وقد أصدرت القيادة المركزية الأميركية بيانًا بهذا المعنى قالت فيه إنّ هذه المواجهة لا "تخدم مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة"، وتابعت "مع ذلك سندافع عن مصالحنا". لا الولايات المتحدة راغبة في المواجهة العسكرية ولا إيران، بحسب تحليلنا. لكن عدم وجود رغبة في التصعيد لا يعدّ شرطًا كافيًا لعدم حصوله، وخصوصاً أن الهجمات على ناقلات النفط قد تستمر في المستقبل، وقد تصبح أعنف، فإيران لن تقبل بأن تُحرم من تصدير نفطها بينما يصدّر الآخرون نفطهم، كما أنّ احتمال انسحابها من الاتفاق النووي يزداد نتيجة عجز الدول الأوروبية، خاصة الموقّعة منها على الاتفاق (ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا)، عن تفعيل آلية حماية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران من العقوبات الأميركية، والتزام بقية الدول بحظر استيراد النفط الإيراني، بما فيها الصين، وإذا انسحبت إيران من الاتفاق فإن هذا سيكون سببًا آخر لزيادة التوتر.