المهلبي.. وصف ثغور بلاد الشام قبل سقوطها بيد البيزنطيين

المهلبي.. وصف ثغور بلاد الشام قبل سقوطها بيد البيزنطيين

20 ابريل 2019
بيت الماء، قريباً من حمص، 1841
+ الخط -

تعد رحلة الحسن بن أحمد المهلبي التي ضمّنها مصنفه المسمى "الكتاب العزيزي" واحدة من أولى الرحلات التي تطرقت بشكل مفصل لأوصاف بلاد الشام بعد قرنين من التجاهل العباسي، إذ لا نكاد نعثر على نص يتحدث عن بلاد الشام، من فترة بداية حكم العباسيين وحتى زمن رحالتنا المهلبي، ما عدا نصاً معاصراً له هو مصنف المقدسي البشاري الاستثنائي "أحسن التقاسيم"، ولذلك يكتسب كتاب المهلبي أهمية خاصة، إذ إنه بداية ظهور الاهتمام الرسمي ببلاد الشام بعد وصول الفاطميين إليها.

نشأ علم "المسالك والممالك" في أوج ازدهار الخلافة العباسية، على يد عدد من المصنفين وكتاب الدواوين، الذين كانت تتجمع بين أيدهم معطيات كثيرة عن الطرق والمسالك والخراج والواردات والنفقات، وأسماء المواضع. وأيضاً على يد عدد من الرحالة الذين صاغوا رحلاتهم بهذا القالب، إذ لم يكن شكل الرحلة كما نعرفه اليوم قد استخدم قبل القرن الخامس الهجري.

وقد حظي مصنَّف المهلبي المهم بعناية واهتمام الكثير من المؤلفين العرب المسلمين الذين أتوا بعده، فوصفه ابن العديم مؤلف "بغية الطلب في تاريخ حلب" والمتوفى سنة 660 هجرية [1262م] بأنه "كتاب حسن في فنه، يوجد فيه مما لا يوجد في غيره من أخبار البلاد وفتوحها وخواصها".

وقد نقل ابن العديم عن المهلبي مقاطع مهمة تتعلق بحلب والثغور الشمالية قبل سقوطها نهائياً في يد البيزنطيين أواسط القرن الرابع الهجري. كما نقل ياقوت الحموي في معجم البلدان عن كتاب المهلبي أكثر من ثلاث وخمسين مرة، ونقل عنه أبو الفداء في تقويم البلدان 210 مرات.

ورغم ذلك سكتت كتب التراجم العربية عن هذا المؤلف الفذ، ولم يذكره ابن خلكان في "وفيات الأعيان"، ولا الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ولا الصفدي في "الوافي بالوفيات"، ولا ابن النديم في الفهرست.

غير أن حاجي خليفة صاحب "كشف الظنون" قال فيه "المسالك والممالك المشهور بالعزيزي للحسين بن أحمد المهلبي المتوفى سنة 380 ألفه للعزيز بالله الفاطمي صاحب مصر ونسبه إلى اسمه"، وربما يرجع خطأ حاجي خليفة في تسميته بالحسين بدل الحسن إلى اعتماده على ياقوت الحموي الذي يخطئ أيضاً في الاسم غير مرة.

ويشير الباباني في "هدية العارفين" إلى المهلبي، ولكنه يذكر معلومات غير دقيقة فينسب الكتاب للمعز الفاطمي وليس للعزيز. ولا نعرف على ماذا اعتمد حاجي خليفة والباباني في تقدير أن وفاة المهلبي كانت في عام 380 هجرية [990 م].

وقد تجاوز المستشرقون الغربيون الذين درسوا التراث الجغرافي العربي هذا المؤلف الفذ، باستثناء المستشرق آدم ميتز صاحب كتاب "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري"، الذي قال "إن لكتاب المهلبي مزية، هي أنه أول كتاب وصف بلاد السودان وصفاً دقيقاً، وكان علماء الجغرافيا في القرن الرابع لا يعرفون من أخبار السودان شيئاً".

كما تحدث عنه المستشرق الروسي إغناتي يوليانوفيتش كراتشكوفسكي صاحب "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"، الذي أكد الأثر الكبير لكتاب المهلبي على المؤلفات التالية.

ورغم أن كراتشكوفسكي يقر بصعوبة الحكم على هذا الكتاب بسبب فقدانه، فهو يلاحظ أن المقتطفات التي نقلها عنه المؤلفون المتأخرون، توضح أنه يستند إلى أوصاف الطرق، وخاصة طرق إفريقيا، فهو يمثل أحد المصادر الرئيسية لياقوت، الذي ينقل عنه أكثر من ستين مرة، ولكنه لا يقتصر على إفريقيا وحدها، فياقوت مثلاً يرجع إليه أكثر من مرة بصدد مواضع مختلفة في الجزيرة العربية. ويلاحظ كراتشكوفسكي أن ياقوت يوليه عناية خاصة من بين مصادره ويضعه جنباً إلى جنب مع المقدسي.

ويشير أخيراً إلى أن أبا الفداء استعان به كثيراً، كما ظل كتابه معروفاً مباشرة إلى أيام دولة التيموريين فاستعمله في بداية القرن التاسع الهجري [الخامس عشر الميلادي] حافظ آبرو عندما وضع مصنفه في الجغرافيا.

ألف الحسن بن أحمد المهلبي كتابه "المسالك والممالك" للعزيز بالله الفاطمي، في الفترة ما بين عامي 365 هجرية [975 م] و380 هجرية [990 م] أي تاريخ وفاته كما تشير المصادر المتوفرة. ولذلك سمي بالكتاب "العزيزي".

ومن خلال وصف المهلبي نستطيع أن نكوّن فكرة شبه كاملة عن التاريخ الاجتماعي، والتركيبة السكانية للثغور الشامية الشمالية قبيل سقوطها، وربما، العوامل التي أدت إلى هذا السقوط.

كما أن الكتاب يحفل بمعلومات جديدة حول دمشق وبيت المقدس وحلب وأنطاكية وغيرها من المدن التي وصلتنا مقاطع مسهبة عنها، ما يؤشر إلى غنى وسعة معلوماتٍ، لم يغيبا عن ابن العديم، الذي نبّه إلى إن في "العزيزي" ما لا يوجد في غيره.

ونستطيع أن نجزم بأنه زار البلاد التي تحدث عنها في كتابه ولم يعتمد على النقل من غيره، وذلك من خلال إشارات عابرة وردت في متن ما وصلنا من كتابه.

ومن الواضح أن المهلبي أراد لكتابه أن يكون جديداً في كل شيء، فلم ينقل عن غيره من المصنفين العرب الذين سبقوه في هذا العلم، ولم يشر إلى أي مصدر، كما أن الدراسة المقارنة للنصوص تجعلنا نجزم بأن معلوماته أصيلة حققها بنفسه، ومصدرها تجربة شخصية وبحث ميداني. ومن هنا أتت أهمية هذا الكتاب، ولذلك نقل عنه مؤلفون رصينون مثل ابن العديم وياقوت الحموي وأبو الفدا.

يقول المهلبي واصفاً مدينة الرها حين كانت بيد الروم بأنها "مدينة عظيمة، فيها آثار عجيبة وهي بالقرب من قلعة الروم من الجانب الشرقي الشمالي عن الفرات. والجبل من حران في سمت الجنوب والشرق على فرسخين، وتربتها حمراء، وشرب أهلها من قناة تجري من عيون خارج المدينة، ومن الآبار وهي والرقة من ديار مضر".


الخابور

حول مدينة رأس عين يقول إنها "تسمى عين وردة، وهي أول مدن ديار ربيعة من جهة ديار مضر، وهي رأس ماء الخابور". أما آمد فيقول إنها "مدينة جليلة عليها حصن عظيم وسور من الحجارة السود التي لا يعمل فيها الحديد ولا تضرها النار والسور يشتمل عليها وعلى عيون ماء ولها بساتين ومزارع كثيرة".

ويعتبر المهلبي أن نصيبين هي "قصبة ديار ربيعة" ويقول إن "نهرها نهر الهرماس وبها عقارب قاتلة" ويتابع تعداد مدن الجزيرة فيذكر مدينة برقعيد التي يقول إنها "مدينة لها سور وأسواق كثيرة، ومنها إلى بلد أحد عشر فرسخاً، ومنها إلى الموصل سبعة عشر فرسخاً".

وأما مدينة بلد فيقول إنها "على دجلة ومنها إلى الموصل ستة فراسخ. ومن تحت حديثة الموصل يصب الزاب الأكبر إلى دجلة، وبينها وبين الموصل أربعة عشر فرسخاً". ويضيف "بين سنجار وتل أعفر خمسة فراسخ، وبين تل أعفر وبين بلد ستة فراسخ.. ومدينة السن على شاطئ دجلة وهي عامرة وعندها يصب الزاب الأصغر إلى دجلة وبينها وبين الحديثة عشرة فراسخ".

وحول مدينة قرقيسيا الشهيرة والتي يقع مكانها في قرية البصيرة الحالية قرب دير الزور، يقول إنها "مدينة تقع شرقي الفرات"، ويلفت النظر إلى أن نهر الخابور الذي يخرج من رأس العين يصب في الفرات قريباً منها"، ويضيف أن هذه المدينة كانت "للزبّاء صاحبة جذيمة الأبرش"، ويقول إن بها عمارة.


في وصف بلاد الشام

يقول المهلبي أن "مدينة الهارونية هي آخر حدود الثغور الشامية مما يتصل بالحدود الجزرية، بينها وبين الكنيسة السوداء اثنا عشر ميلاً". أما حلب فيقول عنها إنها "مدينة جند قنسرين العظيمة وهي مستقر السلطان، وهي مدينة جليلة عامرة آهلة، حسنة المنازل، بسور عليها من حجر، وفي وسطها قلعة على جبل وسط المدينة لا ترام، ليس لها إلا طريق لا مقابلة عليه، وعلى القلعة أيضاً سور حصين؛ وشرب أهل حلب من نهر على باب المدينة يعرف بقويق، ويكنيه أهل الخلاعة أبا الحسن. وأعمال قنسرين كلها ومدينة حلب فتحت صلحاً".

وحول تركيبة حلب السكانية في ذلك الوقت يقول: "أهلها أخلاط من الناس من العرب والموالي، وكانت بها خطط لولد صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، وتأثلت لهم بها نعمة ضخمة، وملكوا بها نفيس الأملاك، وكان منهم من لحقت بقيتهم بنو القلندر فإنني شاهدت لهم نعماً ضخمةً، ورأيت لهم منازل في نهاية السرو.. وكان بها أيضاً قوم من العرب يعرفون ببني سنان، كانت لهم نعمة ضخمة.. وسكنها أحمد بن كيغلغ وبنى بها داراً معروفة إلى الآن؛ وملك بها بدر غلامه ضياعاً نفيسة، فأتى على ذلك كله الزمان، وسوء معاملة من كان يلي أمورهم، لأنه لم يكن بالشام مدينة أهلها أحسن نعماً من أهل حلب، فأتى على ذلك كله، وعلى البلد نفسه سوء معاملة علي بن حمدان [سيف الدولة] لهم، وما كان يراه من التأول في المطالبة".

ويضيف واصفاً أرباض حلب وحاصلاتها بأن "لها من الكور والضياع ما يجمع سائر الغلات النفسية، وكان بلد معرة مصرين إلى جبل السماق بلد التين والزبيب والفستق والسماق، وحبة الخضراء يخرج عن الحد في الرخص، ويحمل إلى مصر والعراق، ويجهز إلى كل بلد، وبلد الأثارب والأرتاح إلى نحو جبل السماق أيضاً، مثل بلد فلسطين في كثرة الزيتون. ولها ارتفاع جليل من الزيت، وهو زيت العراق، يحمل إلى الرقة إلى ماء الفرات، ومنه إلى كل بلد، وقد اختل ذلك ونهكه الروم". في إشارة إلى الحروب التي كانت مستعرة في وقته بعد أن استعادت الإمبراطورية البيزنطية المبادرة في هذه المناطق.

ويتابع المهلبي وصفه أهل حلب فيقول: "فأما خلق أهلها، فهم أحسن الناس وجوهاً وأجساماً، والأغلب على ألوانهم الدرية كناية عن شدة البياض والحمرة والسمرة، وعيونهم سود وشهل، وهم من أحسن الناس أخلاقاً وأتمهم قامة وكانت اعتقاداتهم مثل ما كان عليه أهل الشام قديماً، إلا من تخصص منهم، وقبلتهم موافقة لقبلة أهل الشام".

ويختم بالقول إن حلب "مدينة جليلة العمارة حسنة المنازل عليها سور من حجر وفي وسطها قلعة على تل لا ترام وبينها وبين معرة النعمان ستة وثلاثون ميلاً وبينها وبين مدينة بالس خمسة عشر فرسخاً".

ويصف مدن شمالي بلاد الشام فيقول إن "معرة النعمان مدينة جليلة العمارة، كثيرة الفواكه والثمار والخصب، وشرب أهلها من الآبار"، و"كورة أفامية لها مدينة كانت عظيمة قديمة، على نشز من الأرض، لها بحيرة حلوة يشقها النهر المقلوب"، ويقصد به نهر العاصي. أما مدينة كفر طاب التي تقع خرائبها الآن قرب خان شيخون فيقول إن "أهلها أخلاط من اليمن، وبينها وبين شيزر اثنا عشر ميلاً وكذلك بينها وبين المعرة".


حمص وماؤها العجيب

حول مدينة شيزر يقول إنها "مدينة جليلة يشقها النهر المقلوب عليه القنطرة وهي عامرة كثيرة الفواكه مخصبة، وبينها وبين حماة تسعة أميال وبينها وبين حمص ثلاثة وثلاثون ميلاً، ومن شيزر إلى أنطاكية ستة وثلاثون ميلاً، ولها سور من لبن، ولها ثلاثة أبواب، والعاصي يمر بها مع السور من شماليها". أما مدينة سلمية فيقول إنها "تقع على ضفة البرية (البادية) كثيرة المياه والشجر، رخية خصبة".

وعن مدينة حمص يكتب المهلبي إنها "قصبة الجند (يقصد جند حمص)، وهي من أصح بلدان الشام هواء، وبظاهر حمص على بعض ميل يجري النهر المقلوب وهو نهر الأرنط [العاصي] ولهم عليه أجنة حسنة وكروم".

ويتابع سارداً ما يقال عن أنه "إذا غسل بماء حمص ثوب لم يضر لابسه حية ولا عقرب إلى أن يغسل الثوب بغير ماء حمص". وهي معلومة تتكرر عند جميع البلدانيين والرحالة الذين كتبوا عن حمص.

وحول بعلبك يقول إن "مدينة جليلة قديمة بها مذبح تقول الصابئة إنه بيت من بيوتهم عظيم عندهم جداً، والمقصود هنا معبد إله الشمس، ويضيف القول: "من بعلبك إلى الزبداني ثمانية عشر ميلاً. والزبداني مدينة ليس لها أسوار، وهي على طرف وادي بردى، والبساتين متصلة من هناك إلى دمشق، وهي بلد حسن كثير المنازه والخصب ومنه إلى دمشق ثمانية عشر ميلاً".


العواصم الثغور

يتناول المهلبي مدن سواحل بلاد الشام، وفي وقته كان معظمها بيد الروم، وهي التي تسمى في المصادر الجغرافية العربية العواصم، فيقول عن أنطاكية إنها "مدينة العواصم، وهي مدينة جليلة فتحها أبو عبيدة بن الجراح، وأسكنها المسلمين، وهي من الإقليم الرابع، وعرضها خمس وثلاثون درجة، وهي مدينة عظيمة ليس في الإسلام، ولا في بلد الروم مثلها، لأنها في لحف جبل، هو من شرقها مطل عليها، لا تقع عليها الشمس إلا بعد ساعتين من النهار، وعليها سور من حجارة يدور بسهلها، ثم يطلع إلى نصف الجبل، ثم إلى أعلاه، ثم ينزل حتى يستدير عليها من السهل أيضاً.

وفي داخل السور عراص كثيرة في الجبل ومزارع وأجنة وبساتين، ويتخرق الماء من عيون له في الجبل بقناة إلى المدينة والأسواق والمنازل، كما يتخرق مدينة دمشق، وأبنيتها كلها بالحجر، والفواكه والزهر بها كالمجان، ومساحة دور السور اثنا عشر ميلاً، وبها كنيسة القسيان، وهي كنيسة جليلة عظيمة البناء والقدر عند النصارى، ويقال إن بها كف يحيى بن زكريا عليه السلام، وبرسمها بطريق (بطريرك)، وتجل النصارى قدره، لها أعمال واسعة من المشرق إلى المغرب، وأهلها أحسن خلق الله تعالى وجوهاً، وأكرمهم أخلاقاً، وأرقهم طباعاً، وأسمحهم نفوساً، والأغلب على خلقهم البياض والحمرة، ومذاهبهم على ما كان عليه أهل الشام إلا من تخصص".

ويعدد المهلبي الكور التي تتبع لأنطاكية وهي: كورة تيزين، وهي ضياع جليلة القدر، وكورة الجومة، وبها العيون الكبريتية التي تجري إلى الحمة، وكورة جندارس مدينة عجيبة البناء، مبنية بالحجارة والعمد، وكورة أرتاح، وهي مدينة جليلة القدر، وكورة الدقس، وهي كورة جليلة، وكورة قرصيلي، وهي ضياع جليلة، وكورة السويدية، وهي مدينة على ضفة البحر المالح، وكورة الفارسية والعربية، وهي جليلة القدر، وكورة يدابيا والقرشية".

ويتابع واصفاً هذه القصبة فيقول: بغراس مدينة أنطاكية، وبينها وبين مدينة أنطاكية اثنا عشر ميلاً، وبينها وبين إسكندرونة أيضاً اثنا عشر ميلاً، وهي في الجبل المطل على عمق حارم، وحارم في جهة الشرق عنها وبينهما نحو مرحلتين، وبغراس في جهة الجنوب عن دربساك وبينهما بعض مرحلة.

ثم يذكر مدينة سيس وعين الزربة والمصيصة وطرسوس. ويقول إن ضرائب الثغور "بجميع جباياتها ووجوه الأموال بها مائة ألف دينار على أوسط الارتفاع، تنفق في المراقب والحرس والقوائين والركاضة والموكلين بالدروب والمخاض، وغير ذلك مما جانسه، وكانت تحتاج بعد ذلك لشحنتها من الجند وما يقوم للمماليك وراتب تعاريفها للصوائف والشواتي في البر والبحر وعمارة الصناعة على الاقتصاد إلى مائة وخمسين ألف دينار، وعلى التوسعة إلى ثلاثمائة ألف دينار".

وهذه المعلومات غاية في الأهمية، إذ تفصح عن طريقة صرف الضرائب التي تجبى من الناس في هذه المنطقة التي لم تتوقف الحروب على ثغورها أثناء حكم القيصر نقفور فوكاس الذي كان يريد استعادة بيت المقدس ومدن الساحل الشامي للإمبراطورية البيزنطية.

وحول سكان هذه المدن يقول المهلبي: "فأما أهل هذه الثغور ومن كان يسكنها وأحوال البلاد ومقاديرها، فإن طرسوس كانت أجلها مدينة وأكثرها أهلاً، وأغصّها أسواقاً، وليس على وجه الأرض مدينة جليلة إلا ولبعض أهلها دار حُبُسٍ عليها حُبُس نفيس وغلمان برسم تيك الدار بأحسن العدة وأكمل الآلة، يقوم بهم الحبس الذي عليهم، وكان أكثر ذلك لأهل بغداد، فإنه كان لهم بها ولغيرهم من وجوه أهل البلدان وذوي اليسار منهم جلة الغلمان، مقيمين عليهم الوقوف السنية، والأرزاق الدارّة، ليس لهم عمل إلا ارتباط فرهة الخيل وتخريجها في الطراد والعمل عليها بسائر السلاح، يعملون ذلك في صدور أيامهم، ويتصرفون في أعجازها إلى منازل فياحة فيها البساتين والمياه الجارية والعيش الرغد".

وهذا الكلام يشير إلى وجود أوقاف كثيرة من أهل اليسار للمجاهدين المرابطين في هذه الثغور. ويضيف "كان أهل البلد في نفوسهم على هذه الصفة من ركوب الخيل والعمل بالسلاح ليس فيهم من يعجز عن ذلك، ولا يتخلف عنه حتى أن دور المتاجر الدنية والصنائع الوضيعة كانوا يلحقون بالطبقة العليا في الفروسية والشجاعة وارتباط الخيل، وإعداد السلاح.. وكانت غزواتهم تتصل ومن الغنائم والمقاسم لهم معيشة لا تنقطع".

ويتحدث المهلبي عن التركيبة السكانية لمدينة طرسوس فيقول إن "أهل البلد كانوا من سائر أقطار الأرض بخلق حسن وألوان صافية، وفيهم رقيق وأجسام عبلة، والأغلب على ألوانهم البياض والحمرة والسمرة الصافية وكان في أكثرهم جفاء وغلظة على الغريب، إلا من كان منهم قريب عهد بالغربة، وكذلك الشح كان فيهم فاشياً إلا في الغريب، وغلب على السوقة والمستخدمين قوم من الخوز وسفلة العجم، ومن كانت فيه فسولة عن الحرفة، وكسل عن طلب المعاش فأظهروا زهداً وورعاً، وأعلنوا بالنصب، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر".

ويضيف قائلاً: "فأما أهل البلد وأولاد المجاهدين وأولاد الغلمان وأولاد خراسان فكانوا من الأخلاق السمحة، والنفوس الكريمة، والهمم العالية والمحبة للغريب على ما ليس عليه أحد، ولكنهم كانوا في تقية من هؤلاء الأوباش، فهذا الأكثر من حال طرسوس". ويؤكد أن هذا الكلام ينطبق على مدن الثغر الأخرى وخاصة المصيصة.

وحول منتجات هذه البلاد يقول: "كان يعمل بها ثياب كان تسمى الشفايا مثل رفيع الدبيقي تحمل إلى كل بلد، وبالثغر زبيب لا عجم فيه كالقشمش، ويقطع إلى الثغور الجارح من بلد الروم، فتؤخذ فيه البزاة الفره، وقد كان في جبال الثغر أيضاً أوكار للجارح والكلاب السلوقية الموصوفة من بلاد سلوقية".

وحول مدينة اللاذقية قال: "هي مدينة جليلة من أعمال جند حمص ومنها إلى جبلة اثنا عشر ميلاً، ومن اللاذقية إلى أنطاكية ثمانية وأربعون ميلاً". وقال أيضاً "هي أجلّ مدينة في الساحل منعة وعمارة ولها مينا عظيم". بعد ذلك تحدث عن مدينة جبلة، وبلنياس، وأنطرطوس، وطرابلس، وعرقة وجبيل ثم بيروت التي قال إن بينها وبين مدينة بعلبك ستة وثلاثون ميلاً، وبينهما مدينة عرجموس على أربعة وعشرين ميلاً عن مدينة بيروت. وقال إن بيروت "مدينة جليلة شرب أهلها من قناة تجر إليها ولها مينا جليل".

المساهمون