تروي المناطق المدمّرة شرقي وشمالي قطاع غزة، صمود الغزيين واستبسال مقاومتهم بالتصدي للعدوان الإسرائيلي الذي استمر 29 يوماً، فالأحياء المدمّرة بالكامل، كالشجاعية وشرقي خانيونس وبيت حانون، شهدت مقاومة شرسة للتوغل البرّي الإسرائيلي.
انتقام الاحتلال وآلته الحربية من المدنيين وممتلكاتهم، كان حديث الغزيين العائدين إلى بيوتهم بعد نزوح إجباري لثلاثة أسابيع. يقول السكان في الشجاعية وبيت حانون وشرقي خانيونس، إن الجيش الإسرائيلي انتقم منهم بعدما أصابته المقاومة في مقتل.
واعترف الاحتلال، خلال العدوان البري على غزة، بضراوة المقاومة وصعوبة مواجهتها، لكن الخاصرة الرخوة للمقاومة هي المدنيين، الذين أثخن المحتل الإسرائيلي فيهم جراحاً للضغط على المقاومة التي كانت تستمد كثيراً من صمودها وعزمها من المواطنين.
وبلغت حصيلة العدوان على القطاع 1875 شهيداً، بينهم 430 طفلاً، و243 امرأة، و80 مسناً، وتقول مؤسسات حقوقية وأهلية إن نسبة المدنيين تزيد عن 82 في المئة من الشهداء. كما بلغ عدد الجرحى خلال العدوان 9567 بينهم 2878 طفلاً، و1854 سيدة و374 مسناً.
في بيت حانون شمالاً، والشجاعية شرقاً، والزنة وخزاعة، لا يعرف النازحون الذين عادوا إلى منازلهم أماكنها. سوّت الطائرات بصواريخها، والمدفعية بقذائفها، مناطق كاملة بالأرض، وباتت المنازل ركاماً مختلطاً، فلا يُمكِن تمييز من كان بيته هنا ومن هناك.
ومنذ وقف إطلاق النار المؤقت، الذي بدأ عند الساعة الثامنة من صباح أمس الأول الثلاثاء، يسود هدوء حذر في القطاع، خرقه الاحتلال بإطلاق النار على موظفي بلدية غزة في حي الشجاعية. لكن المقاومة على الأرض في غزة جاهزة لخياري بقاء الهدوء، أو العودة للرد بحال عاد العدوان.
واليوم، مع الهدوء القائم على الأرض، بدأت تظهر قصص الالتحام الشعبي مع المقاومة، ومنها قصة أم جبريل، التي كانت، خلال العدوان، تستعد للخروج من بيتها الذي طالته القذائف في حي الشجاعية، وإذ بثلاثة مقاومين يمرون من أمامها في طريقهم إلى الالتحام مع الجنود الإسرائيليين فقطعت طريقهم وسلّمتهم مفتاح بيتها لكي يتحصّنوا فيه من الغارات.
وفي طريق عودة أم جبريل لتفقّد بيتها المكوّن من طابقين، مع بدء سريان وقف إطلاق النار المؤقت، فوجئت بأن بعض أثاث بيتها وركامه تناثر على مسافات بعيدة. لكنها تقول "هذه ضريبة الصمود والتحدي، على الجميع أن يدفعها".
وواصلت أم جبريل طريقها نحو بيتها لتجد أن أعمدة الطابق الثاني قد اختفت من مكانها، بينما لا تزال بعض جدران الطابق الأرضي تقاوم الانهيار. وتتساءل أم جبريل: "لو إنني لم أفتح الباب للمقاومين، هل كانت طائرات الاحتلال وصواريخه لتستثني البيت من القصف والتدمير؟ بالتأكيد لا".
وتضيف أم جبريل: "نجح الاحتلال بتحويل كافة سكان قطاع غزة إلى مقاومين، فهو فاشل، وظنّ أنه بقصف المدنيين لن تتوفر حاضنة شعبية للمقاومة، وهو لا يعلم أن الأجيال التي تخرج يزداد كرهها له، بسبب ما تشهده من مجازر وحروب".
أما أبو جمال، فيقول وهو يقف بجوار ركام بيته، إن "من أهم أسباب صمود المقاومة في وجه الاحتلال وانتصارها، الحاضنة الشعبية الكبيرة التي وجدتها من المواطنين من دون استثناء، فأثبتت الضربات الإسرائيلية أن الفلسطينيين يتمتعون بجبهة داخلية متماسكة والتفاف غير مسبوق حول المقاومة".
ويضيف لـ"العربي الجديد": "طائرات الاحتلال ومدفعيته تستهدف الجميع، الطفل الذي ينام في حضن أمه، والمسن الذي يجلس في بيته، فأين هي الخسارة بحماية من يدافع عن بيوتنا وعرضنا، بعدما تركوا أهاليهم وأطفالهم؟".
ويوضح أن حجم التدمير الذي فاق التوقع، يدل على المعارك الشرسة التي خاضتها المقاومة مع جنود الجيش الإسرائيلي، وبعدما فشل الاحتلال في وقف أو إضعاف المقاومة وإطلاق الصواريخ، صبّ حمم قذائفه على المدنيين العزل وعلى البيوت.
وعما جرى خلال الأيام الاولى من العدوان وصمود المقاومة، يذكر أبو جمال أن مجموعة من المقاومين تحصّنت في أحد البيوت، وكالعادة قصفه الاحتلال بالقذائف تمهيداً لدخول جنوده وتحويل المكان لثكنة عسكرية، ولكن ما إن اقترب الجنود من المنزل حتى بدأ إطلاق النار عليهم من داخل البيت وخارجه واستمر لساعات عدة.
ويرى أبو جمال، أن الاحتلال يتكتم على خسائره بشكل كبير، فأرض المعركة تشير إلى حجم الهزيمة التي نالها، إذ إن الأهالي الذين عادوا إلى ديارهم وجدوا في بيوتهم معدات طبية مشبعة بالدم مكتوب عليها بالعبرية، وملابس ممزقة للجيش الإسرائيلي.