المقاومة وسؤال النهضة

المقاومة وسؤال النهضة

18 يوليو 2014

مقاومون من كتائب الناصر صلاح الدين في غزة (يوليو/2014/الأناضول)

+ الخط -

شغل سؤال النهضة المساحة الأكبر من نقاشات الفكر العربي المعاصر. لا يمكن أن نذكر مفكراً عربياً له اسمه وحضوره، من دون أن نجد له إسهامات ومحاولات في الإجابة على سؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ كان المفكرون العرب مشغولين بالأسباب التي أدت إلى فقدان العرب فاعليتهم بين الأمم وارتهانهم لإرادات الآخرين.
صيغة السؤال تتضمن استحضار الآخر في سباق النهضة، تتضمن حضور شبحه يطاردنا ويهددنا إن لم ننهض. إنها ليست معيارية، وإنما إدراك وتوجس من عواقب أن تفشل النهضة عربياً وتنجح لدى الآخرين. في عالم اليوم، للنهضة مزاياها وغنائمها، وللفشل في النهضة عواقب وخيمة.
تاريخياً، كانت نهضات الأمم إجابات على تحديات الخارج، كانت النهضة تتم لتصد شرور طرف خارجي، أو للتنافس معه، أو للاستيلاء على موارده وأرضه. وإذا ما أردنا أن نعدد الحالات التاريخية التي حدثت فيها نهضة لأمة من الأمم، فإننا يمكن أن نبدأ بإسبانيا والبرتغال، في القرن السادس عشر، اللتين تنافستا في الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أراضي العالمين القديم والجديد، واللتين اصطدمتا مع الدولة العثمانية التي كانت تحكم وسط العالم القديم. كانت الكشوف الجغرافية لكريستوفر كولومبس (اكتشاف أميركا لصالح إسبانيا) وفاسكودي جاما (الدوران حول أفريقيا لصالح البرتغال)، كانت هذه الكشوف من أجل الالتفاف على الأعداء العثمانيين، والوصول إلى آسيا. هذه الكشوف البحرية/ العسكرية حفزَّت الصناعتين، العسكرية والبحرية للأمتين، أصبحت موانئ الدولتين ورش عمل لبناء مزيد من السفن، الأسرع المجهزة بمدافع أقوى، كان يسري في أوروبا، بشكل متسارع، شعور متزايد بأهمية التخطيط والانضباط والقوة المادية وتقسيم العمل. وذلك كله من أجل أن السيطرة على البحار، التي كانت السيطرة على التجارة العالمية، وكان ذلك يتم على حساب آخر ما. كان الطموح بمواجهة الآخرين في البحار هو ما حوّل إسبانيا والبرتغال إلى إمبراطوريتين كبيرتين، تأتي إلى موانئهما خيرات الآخرين. ما إن أفل نجم الإمبراطوريتين إلا وبرز نجم أمتين أخريين، تحملان الهاجس نفسه بالاستيلاء على الآخر، والمنافسة معه وتطويعه وقهره، كانت فرنسا وبريطانيا ترثان العرشين الاسباني والبرتغالي البحري / العسكري، وكما تصادم الإسبان والبرتغاليون لاقتسام الغنيمة، فقد تصادم أيضاً الفرنسيون والإنجليز في كندا وفي الوطن العربي وفي آسيا، كما اصطدما، قبل ذلك، مع أهل البلاد الأصليين، أو حتى مع الشقيقتين السابقتين. الانجليز، بالذات، بزغ نجمهم بعد هزيمتهم الإسبان في معركة الأرمادا، وردّهم الحملة البحرية الإسبانية الشهيرة على الجزر البريطانية. كان دحر عدو، في حقيقته، عملية نهضة وانتزاع مكانة، وكأن من لم يكن له عدو لم تكن له نهضة.
أما في عصور متأخرة، فقد كان دور الأميركيين والسوفييت في الانتصار على النازية هو البوابة التي أخذت العالم إلى قطبين يتقاسمانه، وكان انهيار السوفييت، لاحقاً، الخطوة التي أدت إلى عالم أصبحت الولايات المتحدة قطبه الأوحد. كان الآخر/ العدو يتوارى بوضوح، في نهوض أمة من الأمم، وفي بزوغ قوتها.


في هذه الأيام، كما في أيام سابقة، تفاجئ المقاومة في غزة حتى المتابعين المحايدين، بتصاعد مستواها التقني والتنظيمي في مواجهة إسرائيل التي طالما تباهت أمام العالم كله بقدراتها التقنية الهائلة، وطالما ذُكر لنا أن هزيمتها غير ممكنة بسبب تفوقها التقني. منذ العام 2008، وحرباً بعد أخرى، تمضي المقاومة الفلسطينية المحاصرة من دون عقدة نقص في المثابرة على تطوير قدراتها التنظيمية والتقنية. أصبحت معظم فلسطين التاريخية في مرمى أهداف صواريخ المقاومة، على مستوى المدى أصبحت إسرائيل هدفاً في المتناول. حدث هذا مع أن إسرائيل قاتلت بشراسة، من أجل أن تكون المعركة على الأراضي العربية خارج فلسطين. اليوم، يجد العدو المعركة قريباً من مقر حكومته، ويجد الصواريخ في خاصرته، ويجد، أيضاً، أن قبته الحديدية عاجزة عن رد الصواريخ الآتية من غزة. ترمي إسرائيل كميات رهيبة من الصواريخ والقنابل على القطاع صغير المساحة، لكن إطلاق الصواريخ يستمر ويتصاعد، وكأن قصف إسرائيل من دون جدوى عسكرية. برياً، افتخرت إسرائيل بالدبابة الشهيرة "ميركافا"، العمود الفقري للجيش الإسرائيلي، هي تعد من أكثر الدبابات أماناً في العالم، بسبب دروعها القوية. في جنوب لبنان، كانت هدفاً لصواريخ المقاومة المضادة للدروع، وتبدو المقاومة في غزة، اليوم، جاهزة لاستقبال هذه الدبابة من دون عقدة أو خوف.
موسماً بعد آخر، وحرباً بعد أخرى، تزداد قدرات غزة المحاصرة العسكرية والتقنية والتنظيمية والمعلوماتية في وجه إسرائيل بعبع المنطقة. يحدث ذلك، بينما ترزح دول عربية عديدة اختارت السلام أو اللاحرب من أجل التنمية والتحديث. ترزح هذه الدول تحت ظروف تنموية صعبة، تستورد غذاءها، ولا تمتلك سرحها، وتزيد فيها نسب البطالة والأمية والفساد، بل إن الأخلاق والقيم والمسؤولية والتضحية تتراجع فيها لصالح الأنانية والجشع والمحسوبية والزبائنية الفاسدة والكمبورادورية، ما يعني أن هذه الدول تُنخر من داخلها.
كأن غزة تقول: من واجه عدوه عرف طريق نهضته!

7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".