المفقود في جدل سد النهضة

المفقود في جدل سد النهضة

20 يوليو 2020
+ الخط -

المفقود في المشهد الدرامي، والسجال المصري الإثيوبي السوداني المرتبط بتشييد سد النهضة، هو النظرة المتعقلة لدى طرح مسألة السد، النظرة الشاملة التي تتجاوز المماحكات والتعالي والتذاكي وافتراض المؤامرة الكونية واجتراح منهج عقلاني يضع القضية على المائدة للتباحث بشكل علمي وعملي، بعيداً عن ضجيج الآلة الإعلامية لدى الأطراف الثلاثة. المطلوب نظرة خبيرة من الدول الثلاث، تعتمد صيغ التعاون الممكنة في إقامة سد هو حاجة تنموية إثيوبية ملحة، وبما يمكن أن يفيد التنمية في كل من مصر وإثيوبيا والسودان، درءاً للمخاطر التي ترتفع الأصوات هنا وهناك محذّرة منها. هناك مخاطر لا جدال في ذلك، ولكن هل يفيد المنهج الحالي في التجاذب وتبادل الاتهامات في إيجاد حلول لها، أم أننا سنعيش ضياع الفرصة التاريخية للتعاون المثمر بين ضجيج العويل الإعلامي. 
كان من المتمنّى لو أن المسلك المصري تجاه هذه القضية، منذ بدايته، اتسم بقدر من الكياسة والدبلوماسية المرنة التي عرفت بها مصر تاريخياً تجاه محيطها الأفريقي. ماذا كان سيحدث لو أن مصر استغلت تلك الأرضية التاريخية الإيجابية، التي تأسست على مدى عقود، ووضع لبنتها الرئيس جمال عبدالناصر، وأعملت عناصر التاريخ والسياسة النيلية، واتجهت نحو التعاون مع إثيوبيا، بدلاً من المسلك المعيب الذي لجأ إلى التخوين، واعتماد نظرية المؤامرة، مدخلاً وحيداً للتعامل مع قضية بمثل هذه الحساسية للدولة والشعب في إثيوبيا؟ ماذا لو أن مصر وضعت مقدّراتها المعرفية وخبرتها المعترف بها، وقدّمت العون الفني لإثيوبيا، لبناء سد منيع يفي بأغراضه، ولا يلحق الضرر بالسودان أو مصر؟ وماذا يفيد مصر أن تربط قرار دولة مثل أثيوبيا قد خططت لمشروع نهضوي وتحديث الدولة بمخططات إسرائيلية ومؤامرات للنَّيل من مصر؟ 

لا يزال هناك الوقت، لكي تعيد مصر النظر في أسلوب تعاطيها مسألة سد النهضة

لا يزال هناك الوقت، لكي تعيد مصر النظر في أسلوب تعاطيها مسألة سد النهضة. اعتماد المنهج الواقعي العقلاني أفيد وأبقى على المدى الطويل بالنسبة إلى مصر، ويعيد إليها موقعها الريادي في معالجة كل القضايا الأفريقية، فالتدويل وإشراك أطراف إقليمية، كجامعة الدول العربية، لم يكن المنحى الموفق في التعامل مع القضية، إذ كان الطبيعي والأجدى أن تطرحه، إن شاءت، على نطاق الاتحاد الأفريقي، الذي آلت إليه حالياً الأمور، كما نتابع. 
وعلى سبيل التدويل، وقبل فترة قريبة، دعت مجموعة من السفراء الأميركان الذين عملوا مساعدين سابقين لوزراء الخارجية للشؤون الأفريقية، إلى أن تتبنّى الإدارة الأميركية للرئيس ترامب منهج وساطة حقيقي، في ما يتعلق بمسألة سد النهضة الإثيوبي. وعبّروا في خطابهم إلى مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية، ديفيد هال، "عن القلق من تصعيد التوتر بين إثيوبيا ومصر بشأن استغلال مياه النيل وتشييد سد النهضة".

اعتماد المنهج الواقعي العقلاني أفيد وأبقى على المدى الطويل بالنسبة إلى مصر، ويعيد إليها موقعها الريادي في معالجة كل القضايا الأفريقية

وجاء في الخطاب: "دخلت المحادثات منعطفاً حرجاً، ونحن ندعو الولايات المتحدة إلى أن تتوخّى سياسة محايدة، وأن تتبنّى وساطة حقيقية كأفضل السبل لتقدم مصالحنا، وأن تضمن الاستقرار في المنطقة". وانتهى إلى إشارة عقلانية "فإن وقوف الولايات المتحدة إلى جانب مصر في المفاوضات سيحدّ من قدرتنا على دعم الجهود الرامية إلى الوصول إلى حل للمسألة". 

وهناك أطراف أخرى تتابع المشهد عن قرب، في انتظار اللحظة المناسبة للخوض في مياه النيل الأزرق، مثل روسيا التي تحوّل موقفها من داعم لإثيوبيا إلى شريك تجاري معتبر اليوم مع مصر، والصين التي تعتبر أهم الداعمين للنهضة التنموية في إثيوبيا وممولاً مهماً لبناء السد. بمعنى آخر، النهج الحالي في إدارة الأزمة، وما قد يتمخض عنه من تصعيد محتمل، إذا لم تنتهِ المفاوضات إلى حل للقضية، قد يقود إلى دخول أصحاب المصلحة من ممولين لبناء السد، أو الدول الكبرى، على خط الأزمة.

منح فاروق الباز الجميع في مصر والسودان فرصة للتأمل في الجانب الإيجابي لإمكانية الخروج بحلولٍ مرضية، واقعية وعلمية

ويسجّل كاتب هذه السطور هنا إعجابه بشجاعة العالم المصري، فاروق الباز، إذ خالف المجرى العام لتيار إعلامي جارف، يجيّش العواطف ويصوغ رؤية مضللة داخل المجتمع المصري، بل على نطاق الإقليم أيضاً، حينما ردّ في محطة تلفزيونية مصرية على سؤال وُجِّه إليه، بصفته عالم جيولوجيا ومصرياً، بشأن خطر بناء السد واحتمال انهياره، قال بالحرف: "ده تخريف. هو في حد يديلك فلوس عشان تبني حاجة هم مش متأكدين مية المية من إنها حاجة كويسة وفلوسه تضيع؟". سألوه كخبير جيولوجيا: "هل يتحمل السد وأرضيته تتحمّل هذه السعة التخزينية الكبيرة؟"، قال: "مية في المية وإلا ماكنش يتعمل"، وأوضح أنه لا توجد أي مخاطر. وبهذه الرؤية المصرية العلمية المعهودة بشجاعتها، منح فاروق الباز الجميع في مصر والسودان أيضاً فرصة للتأمل في الجانب الإيجابي لإمكانية الخروج بحلولٍ مرضية، واقعية وعلمية، بعيداً عن التهريج والعواطف. ولهذا، المطلوب من التفاوض الحالي أن يبحث عن أقرب الصيغ للتعاون الثلاثي، حرصاً على المستقبل الذي يفترض وجود روح التعاون، بل والتكامل الذي من دونه لن تنجح أي من الدول الثلاث منفردة في مواجهة مخاطر المستقبل، من حاجة متزايدة للمياه، ومن مخاطر الجفاف والتصحر الذي حتماً سيضرب، كما هو معتاد، الهضبة الإثيوبية، حيث يتدفق النيل الأزرق، أهم روافد نهر النيل.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.