المغرب العربي .. الأزمة الليبية وكلفة اللااتحاد

المغرب العربي .. الأزمة الليبية وكلفة اللااتحاد

19 فبراير 2020
+ الخط -
مع تصاعد التطورات على الساحة الليبية وتداعياتها على دول الجوار، وما تمثله من تهديد لهذه الدول وشعوبها، فإن مواقف هذه الدول تظل منفردة، متسمة بالعجز والاكتفاء بالمراقبة، في غياب موقف موحد ورؤية تنسيقية مفترضة من خلال الاتحاد المغاربي. الاتحاد المشلول منذ قيامه في فبراير/ شباط 1989 ورحيل مؤسسيه. 
تاريخيا، نمت فكرة الاتحاد، فأصبحت هدفا للتجسيد، والتأمت حوله في مؤتمر طنجة (إبريل/ نيسان 1958) أحزاب رائدة في المنطقة المغاربية، في طليعتها حزب الاستقلال (المغربي)، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، والحزب الدستوري التونسي الجديد.
وبين العامين 1958 و1964، انشغلت الأقطار المغاربية ببناء الدولة الوطنية، دولة الاستقلال. وفي 1964 شهدت الأقطار المغاربية محاولة أخرى في طريق بناء الاتحاد، وهي بعث اللجنة الاستشارية الدائمة "للمغرب العربي"، قاعدةً لتعاون اقتصادي مغاربي، ولكن اللجنة منيت بالشلل، ثم العجز التام عن أداء الهدف الذي تشكلت من أجله. ثم في 17 فبراير/ شباط 1989، التقى الرؤساء الخمسة في قمة مغاربية في مراكش، حيث تم التوقيع على معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي، تجسيدا لتطلعات الشعوب المغاربية في "إقامة اتحاد بينها يعزّز ما يربطها من علاقات، ويتيح لها السبل الملائمة لتسير تدريجيا نحو تحقيق اندماج أشمل فيما بينها". وفتحت تلك القمة التأسيسية مجالا لإبرام حوالي 37 معاهدة، تتعلق بمجالات مختلفة، وتكرس إنشاء سوق مغاربية، واتحاد جمركي، وإلغاءً للحواجز، وفتحا للحدود للأفراد والبضائع، كما تم الشروع في إنشاء هياكل مغاربية تعنى بالاقتصاد والمال والتعليم.. إلخ. وظلت أغلب هذه الاتفاقات حبرا على ورق، وتم تجميد الهياكل المغاربية المرتبطة أساسا بمجلس الرئاسة الذي لم يُعقد منذ 1994، علما أنه الهيئة العليا الوحيدة التي تمتلك حق القرار.
ومع تصاعد التحدّيات التي تواجهها المنطقة، في ظل الأزمة الليبية وتعقيداتها، فإن الاتحاد 
المغاربي (المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا) يتعرّض اليوم لإهدار كبير لفرص التنمية، إذ يقدر الخبراء تكلفة اللااتحاد من خلال خسائر اقتصاديات البلدان المغاربية بسبب عدم اندماجها والمضي في بناء هيكل اتحادها بما بين 3% إلى 5% من الناتج الخام الداخلي للبلدان الخمسة أي ما يناهز عشرة مليارات دولار سنويا، بحسب تقارير اللجنة الاقتصادية لأفريقيا، إذ تعتبر اليوم المنطقة المغاربية الأضعف على مستوى القارة الأفريقية من حيث التجارة البينية التي لا تتجاوز 2% من حجم مبادلاتها الخارجية، بينما يصل المعدل أفريقيا إلى 16%، حسب إحصائيات المنظمة العالمية للتجارة حول الاتحاد الأفريقي.
وتعيش دول المنطقة المغاربية اليوم واقعا حادّا للاحتقان الاجتماعي، ترتفع فيه معدلات بطالة الشباب إلى نسبة 25%، ويغيب نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام ما بين 2010 و2015، وقد نبّه البنك الدولي إلى أن مجرد فتح الحدود بين المغرب والجزائر مثلا سيكسب سنويا كل بلد منهما نقطتي تنمية، مع ما يعنيه ذلك من إيجاد فرص الشغل وامتصاص البطالة. أما الديون المغاربية فيصل حجمها اليوم الى 70 مليار دولار. وتذكر تقارير المؤسسات المالية الدولية أن تداعيات الربيع العربي زادت في حجم هذه الديون وانعكاساتها المأساوية على الشؤون الحيوية للمواطن المغاربي.
ولا تقف قتامة هذا المشهد عند هذا الحد، وإنما تزداد بتزايد التحدّيات الأمنية المتأتية من تناسل بؤر الإرهاب التي أصبحت معها مجالات واسعة من الأراضي المغاربية سوقا للسلاح، ونقاط جلب لعدد كبير من الشباب المغاربي المستقطب من جماعات التطرّف الديني في منطقة الساحل والصحراء، حيث نشأت ظاهرة الإرهاب العابر للقارات، وانتشار قواعده على امتداد الساحة المغاربية، وصولا إلى الصحراء الكبرى، وإلى دول الساحل، مثل مالي والنيجر والسنغال. ويمثل غياب الإرادة السياسية لدول الاتحاد عائقا بارزا أمام انطلاق قطار هذا الصرح، والقفز بدول المنطقة إلى مستوى جديد لكيان صلب، يمكن أن يحتل مكانة اقتصادية وسياسية وأمنية بارزة في التفاوض مع الاتحادات والدول الأخرى.
ويجمع خبراء على أن الأزمة الليبية وتعقيداتها الراهنة قد أصبحت أبرز مثال على كلفة اللااتحاد، ويرون أن الدول المغاربية، من خلال اتحادها، مدعوة اليوم إلى لعب دور محوري في حل النزاع الليبي، خصوصا وأن مواقفها تبدو متقاربة جدا من هذه الأزمة، فهي تقريبا على المسافة نفسها بين طرفي النزاع في طرابلس وبنغازي. وهو ما يمكن أن تعقد لأجله قمة مغاربية لبحث هذا النزاع. ولئن كانت قضية الصحراء الغربية قد مثلت، عبر عقود طويلة، خلافا بين المغرب والجزائر، ما عطّل انطلاق القطار المغاربي، فقد برزت مؤشّرات جديدة من شأنها أن تدعو إلى التفاؤل، أهمها أن الرئيس الجزائري الجديد، عبد المجيد تبون، قد ركّز، في خطاب التنصيب وغيره، على ملفين أساسيين، الملف الليبي الذي أكد، بخصوصه، على "أن الجزائر هي أكبر المعنيين باستقرار ليبيا، أحب من أحب، وكره من كره، ولن تقبل بإبعادها عن الحلول المقترحة للوضع في ليبيا". كما قال "سنعمل على تحقيق استقرار ليبيا ووحدتها، والجزائر تدعو الأخوة الليبيين الى توحيد صفوفهم ونبذ التدخلات الخارجية." وقد شدّد على أن الجزائر التي تؤمن بأن ليبيا تمثل عمقها الاستراتيجي، وبأن أمنها من أمن ليبيا، أكدت مرارا وتكرارا أنها ضد أي تدخل أجنبي في المنطقة، وأنها مع التسوية السياسية للنزاع الليبي.
أما الملف الثاني الذي ركز عليه الرئيس الجزائري فهو العلاقات مع المغرب الأقصى والموقف 
من قضية الصحراء الغربية. وفي هذا الإطار، قال تبون "إن المغرب العربي الذي حلم به أجدادنا سيظل في اهتماماتنا، وندعم حسن الجوار والتعاون مع دول المغرب العربي"، وأضاف أن "الجزائر تعتبر أن قضية الصحراء الغربية مسألة تصفية استعمار بيد الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، ويجب أن تظل بعيدة عن تعكير العلاقات مع الأشقاء". وفي هذه السياق، قال العاهل المغربي، محمد السادس، في برقية التهنئة التي بعثها إلى تبون "أجدد دعوتي السابقة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين الجارين على أساس الثقة المتبادلة والحوار البناء". وكان الرئيس التونسي قيس سعيد قد أطلق أكثر من إشارة باتجاه حتمية بناء كيان مغاربي موحد، في ظل التحولات الجيوسياسية، وبروز التكتلات الإقليمية الجديدة وتطلعات الشعوب. وهو ما عبر عنه صراحة خلال زيارته الرسمية للجزائر.
إشارات إيجابية متبادلة بين الرئيس الجزائري وملك المغرب والرئيس التونسي تمهيدا لتقارب مؤمل بين بلدانهم قد يبدأ بإعادة فتح الحدود المغلقة بين الجزائر والمغرب منذ 1994، ما سيشكل حدثا تاريخيا في غاية الأهمية، قد ينطلق بعده مشوار التنسيق والتعاون الاقتصادي والأمني وتوحيد الموقف المغاربي إزاء الأزمة في ليبيا، الدولة العضو والمؤسس لاتحاد المغرب العربي.
وتؤكد تقارير مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية الجادّة أن الأسباب العميقة لقيام النزاعات، والتي أدت إلى التدخل الأجنبي في ليبيا، وفي المنطقة عموما، تقف وراءها دول أجنبية، محور صراعها ثروات الطاقة التي تزخر بها المنطقة، وخصوصا ليبيا. وهي صراعاتٌ يمكن أن تشمل، في وقت لاحق، دولا مغاربية أخرى، على غرار الجزائر، فمساحة دول المغرب العربي مجتمعة حوالي 5.782.140 كلم مربعا، وهي تفوق مساحة الاتحاد الأوروبي، ويبلغ طول شريطه الساحلي المطل على المحيط الأطلسي والبحر المتوسط حوالي 6505 كلم. أما عدد سكان الدول المغاربية الخمس فقد بلغ حوالي 90 مليون نسمة، 30% منهم أقل من 15 سنة. وتزخر هذه المساحة الكبيرة بثروات طبيعية هائلة من نفط وغاز في ليبيا والجزائر وفوسفات وحديد وغيرها من المعادن في المغرب وموريتانيا وتونس. ثروات لا يزال معظمها تحت الأرض. وعلى الرغم من ذلك، ما زال شباب البلاد المغاربية يرمي بنفسه في المتوسط، على أمل الوصول إلى الضفة الشمالية لهذا البحر!
وتدعو مؤشراتٌ أخرى إلى التفاؤل، منها ما أعلنته أحزاب مغاربية عديدة، وازنة في الساحة السياسية، عن ضرورة أن تعمل الحكومات المغاربية من أجل تحقيق حلم شعوبها بقيام الاتحاد المغاربي، احتراما لحق هذه الشعوب في التكامل بينها وتوفير فرص العيش المرفّه للإنسان المغاربي. وقد دعت هذه الأحزاب مؤسسات المجتمع المدني من اتحادات العمال والكتاب والمرأة إلى العمل مجتمعةً على استئناف الجهود لإقامة صرح المغرب العربي الكبير، فهل تلقى هذه الإشارات والمؤشرات صدىً لدى حكّام المغرب العربي، بما يحقق حلم شعوب المنطقة وتطلعاتها في التكامل والاندماج والاتحاد؟
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي