المعيشة والحياة

المعيشة والحياة

20 يونيو 2018
طفلة أفغانية بانتظار وجبة من مؤسسة خيرية (فرانس برس)
+ الخط -

يستخدم الاقتصاديون مصطلحاتٍ كثيرةً، تصبح مع الوقت أوثاناً فكرية، أو بقرات مقدسات، يستخدمها كثيرون في التحليلات والدراسات. ومع الوقت، تصبح هذه الحقائق مُعلّبة، تؤخذ كما هي من دون تعمق أو تفكير. 

ومن هذه المصطلحات على سبيل المثال مستوى المعيشة، أو ما اصطُلِحَ عليه باللغة الإنكليزية لفظ (Standard of Living).

وتسمع المخططين، والمرشحين للبرلمانات أو لمناصب تنفيذية، يعدون الناس بمستويات أفضل من المعيشة.

ومنذ أن اعتلت الولايات المتحدة الأميركية عرش الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وصار الدولار بديل الإسترليني، وحتى الذهب عملة دولية ومقياساً لقيم العملات الأخرى، صار "الحلم الأميركي" يتجسد في بيت في الضواحي، وسيارة جديدة، وأثاث عصري، ومطبخ تجد فيه ربة المنزل كل وسائل الحياة الحديثة للطبخ وتخزين الطعام والتنظيف، ويتمتع الأبناء فيه، مع والديهم، باللعب في الحديقة المكسوة بالعشب الأخضر، وببركة سباحة ينظر إليها الجيران ببعض الحسد.
ولذلك، صار "الحلم الأميركي" ممثلاً بكل هذه الوسائل الاستهلاكية، من تلفزة، وكرسي هزاز للوالد، وأريكة متحولة إلى سريرٍ عند الضرورة، وعدة شواء خلف البيت بجانب البركة، وبيانو قلما يعزف عليه أحدٌ من مظاهر العيش المريح، دلالة على مستوى المعيشة. وبفضل السينما الهوليوودية، وبرامج التلفزة، صار الحلم الأميركي مطمحاً لكل أسر العالم.

ولكن تبين، مع الوقت، أن لهذا الحلم تكاليفه الباهظة، فبسبب نظام التقسيط المريح والمكلف، وبالحصول على بطاقات الائتمان أو التسليف، صارت الأسر والأفراد ينفقون من دون أن يستخدموا النقد، ورقاً كان أو مسكوكات.

وعادة ما يكون حس المشتري أحدّ وأشدّ، عندما يدفع نقداً. أما الشيكات والكمبيالات، وبطاقات التسليف، فقد أفقدت المستهلكين شعورهم بقيمة ما ينفقون، وغيّبت عن أذهانهم تكاليف ما يشترون.

ولذلك تحول الحلم الأميركي إلى تهديد لأمن الأسر المعيشي، وصار الناس مجرد مستَخدمين لصالح المصارف التي تسلّفهم النقود، وبات هم كل الأسر التأكد من دفع الفواتير المتراكمة التي تصل إليهم في نهاية كل شهر.

وعندما كان الاقتصاد يمرّ بمرحلة التباطؤ أو التراجع، كان كثيرون يفقدون وظائفهم، أو يقبلون بأجورٍ أقل، ما يعني أن كابوس المدفوعات الشهرية، وسداد الديون المصرفية، صار أشد حملاً، وأثقل عبئاً من السابق.

وتضطر الأسرة إلى التنازل عن السيارة، أو القبول ببيت أصغر، أو التضحية بالعشاء الأسبوعي خارج البيت، أو بتقليص الإنفاق على سلع الرفاهية، وأحياناً الضرورية.
أمام هذه الحالة، وتكرارها، بدأ الحلم الأميركي ينهار ويتراجع، ووجد الناس أن حيواتهم صارت خواء، فليس فيها إلا فواتير تسدّد، وطعام يشترى، وأقساط تدفع، وتضيع من هذا النمط الاستهلاكي البراق حالة الإشباع التي كان يشعر بها الأفراد.

إذن، آن الأوان أن يفكر الناس، في دول كثيرة، بالبحث عن وسائل تغني حياتهم، وتغذّي أرواحهم. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. حتى ولو كان مع الخبز لحم وخضار وفواكه.
المطلوب إشباع الروح، وجعل الحياة تستحق أن تعاش، فانتقل التركيز من مستوى المعيشة إلى مستوى الحياة.

والفرق بين المعيشة، بأساسياتها القائمة على الاستهلاك الجسدي والحسي، والحياة بمفهومها المعنوي والثقافي والروحي، يتمثل في تحويل هم الأسرة من تبرير حاجاتها الأساسية إلى إشباع روحها بمُثُل سامية، وثقافة محترمة، وفهم للموسيقى وتذوق للشعر، وصبرٍ على تقلبات الزمن، والقدرة على المرونة، لإعادة تكييف نمط المعيشة، عندما تضيق موازنة الأسرة عن متطلبات الاستهلاك التي تعوّد عليها من أفرطوا في ذلك الاستهلاك.

إذن، علينا أن نضع معايير جديدة لنمط العيش، لتتحول المعيشة إلى حياة، ويتحول مقياس مستوى المعيشة إلى مقياس مستوى الحياة.

لقد انكوى المواطن العربي من نار الحرمان من الثقافة، وتناسيه الشعر، وهزئه من التاريخ، وجهله بالجغرافيا، وتغافله عن أبسط حقائق الدين، إلى شخصٍ يعاني أكثر من غيره من سكان العالم من السكري، وآلام المفاصل، وأوجاع العمود الفقري، والزيادة في الوزن، والتأفف من تكليفه بأبسط الواجبات.
أعتقد أن الوقت قد حان لكي نرفع من مستوى تفكيرنا وتخطيطنا، وأن ننتقل من الحديث عما نوفره من حاجات استهلاكية للمواطنين، إلى أشخاص ينطبق عليهم قول الشاعر:
والنفس راغبة إذا رغبتها/ وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع.

نريد مواطناً صبوراً، قادراً على التكيف، لأن لديه قيماً يعتز بها، ومصادر إشباع معنوي يجدها في كتاب قيّم، أو قصيدة شعر، أو أي مصدرٍ من مصادر الثقافة التي ترقى به، عندما يضطر أن يقبل من الدنيا تغييراً في قدرته على الشراء الاستهلاكي.

ولو أننا أدخلنا معايير تعكس مستويات الحياة، لنفرق بين الدول، لوجدنا أنها قد تقدم لنا نتائج تختلف عن نتائج النظر إلى مستويات المعيشة. وقد نجد بلداناً فيها للفن والموسيقى، والثقافة بشتى تجلياتها، مكانة عالية، والاكتفاء الروحي غني فيها تسبق دولاً أخرى أكثر منها غنىً وثروةً ومعدل دخل فرد.

وحتى مؤشر السعادة الدولي الذي يضع دولة فنلندا في مقدمة دول العالم، فلربما تخسر أمام المملكة المتحدة أو فرنسا، حيث الثقافة تعني قيمةً أكبر.

أين نحن في الوطن العربي من هذا؟

ربما كانت بعض الدول العربية حالياً تقدم مستويات معيشة أفضل، لكنها على سلم مستويات الحياة والإشباع الروحي والثقافي كانت قبل خمسين سنة أحسن وأعلى مما هي عليه الآن.

المساهمون