المعجم التاريخي.. صناعة ثقافية ثقيلة

المعجم التاريخي.. صناعة ثقافية ثقيلة

09 ديسمبر 2018
نقوش بالعربية في مسجد في دلهي
+ الخط -

من بين أصناف المعاجم المتنوّعة، كالمعاجم المتخصّصة ومعاجم الاستشهادات والمعاجم المزدوجة، يبرز نوع مخصوص واستثنائي، هو المعجم التاريخي الذي لا يكتفي بإعطاء دلالة محدّدة للكلمة بل يذهب أبعد من ذلك حين يعيد كتابة قصة دلالات الكلمة وعبورها في الزمن.

لا شكّ أن الثقافة العربية من بين الثقافات التي لها تجربة غنية في صناعة المعاجم، يشهد على ذلك تراثها، إلا أنها بقيت تفتقد "الجوهرة" الأساسية في تاجها، أي معجماً تاريخياً يعيد تركيب سيرتها وصورتها في أذهان مستعمليها ودارسيها، وهو المشروع الذي أطلقه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في 2013، وبعد ما يناهز الخمس سنوات يجري إطلاق بوابة إلكترونية خاصة به، إضافة إلى الإعلان عن الجزء الأول منه والذي يرسم تاريخ العربية من بداياتها إلى القرن الثاني هجري.

يعبّر التفكير في إنتاج "معجم تاريخي" عن وعي بحاجة داخل ثقافة إلى النظر في مسارها بين العصور عبر مرآة لغتها، وهو بالتالي مشروع لا يمكن أن يكون شأن اللغويين لوحدهم، فمثلاً في ألمانيا كان الأخوان غريم، وهما المعروفان بجمع الأساطير والخرافات، من أطلق مشروع معجم تاريخي للألفاظ الألمانية، مشروع استمر الاشتغال عليه من 1854 إلى 1961 أي ربما في جيل أحفادهما المباشرين.

يشير هذه الوقت الممتدّ في صياغة معجم تاريخي إلى النفس الطويل الذي ينبغي أن يرافق هكذا مشروع، إضافة إلى عناصر الإرادة والجهد والاستفادة من التقنيات الحديثة. ربما علينا هنا أن ننتبه أن اللغة الألمانية حين اشتغل عليها الأخوان غريم واللغويون من معاصريهم كانت قد تبلورت منذ قرون قليلة لا غير، في حين أن الاشتغال على العربية يعني العودة إلى قرابة ألفيّتين مما يعدّ الناس. فإذا أضفنا إلى هذا الامتداد الزمني البعيد، كون العربية هي لغة ممتدة جغرافياً أيضاً، وأننا لا نجد لغة أخرى في العالم اليوم تستجيب لشَرطيْ الامتداد الزمني والجغرافي معاً، ربما نكون قد رسمنا بعضاً من ملامح أهمية هذا المشروع.

في 2014، صدر عن "المركز العربي" كتاب جماعي بعنوان "نحو معجم تاريخي للغة العربية". كان بمثابة علامة في الطريق، حيث يفصّل للقارئ العربي الإطار التصوّري والمنهجي للمعجم، والبنية المؤسساتية التي ستشرف عليه، كما يوضّح بتفصيل فكرة "المعجم التاريخي" وجدواها، حيث يؤكّد القائمون على المشروع أن "عدم الوضوح في تحديده (مفهوم المعجم التاريخي) يؤدّي إلى عدم وضوح الرؤية في إنجازه".

وإلى جانب هذه الأبعاد الترتيبية، على أهمتها، يمكن أن نشير أيضاً إلى ما هو أشمل وأوسع، وهو الطموحات ما فوق اللغوية للمعجم، والتي يمكن أن نجملها في ما قاله المفكر العربي عزمي بشارة في مقدّمة هذا الكتاب: "ليس المعجم التاريخي للغة العربية بالأمر السهل، إنه مشروع أمة".

من هنا نفهم أن هذا المعجم يتجاوز دائرته اللغوية إلى ما هو أبعد، فالمعاجم مهما كان صنفها تبقى في النهاية وسيلة تلبّي حاجيات من يطلبها، وهؤلاء هم أهل اللغة برمّتهم وليسوا من أهل الاختصاصات اللغوية فحسب، وكثيراً ما يذكّرنا المعجميون، ومنهم من يشارك في صناعة "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" أن هكذا معجم يتحوّل لاحقاً إلى رافد لمشاريع معجمية فرعية متعدّدة، وذلك مما ينقص المعاجم العربية التي تبدو غالباً مثل جزر معزولة لا تفضي إلى بعضها سواء على مستوى المنطق أو الترتيب، بل حتى على مستوى اختيار المصطلحات.

لكن يبقى أهم ما يقدّمه المعجم التاريخي هو الحفر البعيد في الذاكرة اللغوية وهي في النهاية "ذاكرة الأمة"، بما في ذلك من كشف لبناها وآليات تطوّرها. وهذا الأمر لا تقدّمه إلا المعاجم التاريخية، حيث تتيح مشهدية مختلفة لمكنونات ثقافة، حتى أن المعجمي الفرنسي آلان راي حين انتهى من "المعجم التاريخي للغة الفرنسية" قد قال أنه بهذا العمل قد حقق أمنية غالية على نفسه وعلى المعجميين جميعاً، وهو أن يُقرأ المعجم كرواية.

على ذكر الفرنسية، ومن المعروف أنها ثقافة مُغرمة بالاعتناء بلغتنا، وتمظهر ذلك بشكل خاص في صناعة القواميس، ربما علينا أن نعرف بأن معجمها التاريخي قد انتهى العمل منه بشكل نهائي في 1992، رغم محاولات سابقة كثيرة أخرى لم تكلل بالنجاح مثل محاولة "الأكاديمية الفرنسية إصدار معجم تاريخي في القرن التاسع عشر، إلا أنه يتوقّف بعد إصدار أربعة أجزاء لا غير، كما أن معاجم أخرى سمّيت تاريخية من دون أن تحمل الشروط الضرورية لاستحقاق التسمية.

هناك جانب آخر لعلّه من أبرز ما يقدّمه "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" وهو أنه مشروع مفتوح، يعترف أن فريق بحث محدود لا يمكنه الإحاطة بمجمل الدلالات وتطوّراتها في حقل شاسع مثل العربية وتاريخها. وهنا سيستفيد المعجم من الأدوات التقنية الحديثة المستعملة في المعجمية وأهمها علوم الكمبيوتر، وهذه قد أثبتت في مناسبات عديدة قدرتها على تطوير المجالات التي أحسنت توظيفها.​

من جميع هذه العناصر، نفهم حجم المسؤولية التي ينهض بها مشروع "المعجم التاريخي". إنه بعبارة معاصرة: صناعة ثقيلة، ثقافية نعم لا تحتاج بنى تحتية ومنشآت، ولكنها تحتاج بنى أخرى ليس أقلّها العمل الجماعي والنظر البعيد في ما تحتاجه ثقافتنا.

دلالات

المساهمون