أخرى مغايرة تماما، ففي ساحل العاج والغابون، شعر القادة بأن الأوضاع السياسية تتجه نحو الأسوأ، فحاولوا ركوب موجات التغيير الديمقراطي، عوضا عن أن تجرفهم معها، فخضعوا لمطالب المعارضة بإجراء انتخابات حرة.
ولكن إذا كانت النخب لا تقبل بأي عملية توسيع للحياة السياسية، ولا توجد ضغوط حقيقية عليها، ما العمل؟ عملية الضغط من الأسفل، أي الضغط الشعبي، يمكن أن تؤتي ثمارها، بشرط أن يستمر الحراك السياسي المدني إلى آخره، كما جرى في تونس ومصر، أما إذا فشل الحراك السياسي المعارض، فإن النخب الحاكمة ستعطل عملية التغيير، بقيامها بإصلاحات شكلية تعزّز بقاء النظام. وقد بينت تجارب دول عديدة أن التهديد من الأسفل إلى الأعلى، إن لم يكن مكتملا، لن يحقق أهدافه في عملية الانتقال الديمقراطي. وفي بحثها في تجارب أميركا اللاتينية، تقول تيري لن كارل إن الانتقالات التصاعدية لم تقد إلى ديمقراطية مستقرة.
وبشأن سورية، نشأت فرصة كبيرة لتأسيس ديمقراطية من الأسفل في مناطق سيطرة المعارضة، أو حتى من الأعلى لدى المؤسسات السياسية المعارضة، ولكن تجربة المعارضة لم تؤسس لعملية ديمقراطية، لا من الأعلى ولا من الأسفل، فعلى صعيد النخب، اكتفى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بعملية ديمقراطية، لا يمكن وصفها إلا بأنها ديمقراطية القلة، في وقت تم استبعاد الشارع المعارض من انتخاب ممثلين حقيقيين له في صفوف المعارضة. ونتيجة غياب ديمقراطية على مستوى القاعدة الشعبية تنتخب ممثلين لها، تحول "الائتلاف" إلى مؤسسة للتنافس الشخصي والإقليمي، وأصبحت مؤسسة سياسية تُعنى بالدبلوماسية فقط. وعلى
الصعيد الشعبي، كانت التجارب الانتخابية المحلية فقيرة للغاية، ففي 24 ديسمبر/ كانون الأول 2015، جرت انتخابات في درعا لاختيار مجلس المحافظة، وفي يوليو/ تموز 2017، جرت انتخابات للمجلس المحلي لمدينة سراقب في إدلب. وفيما جرت بعض العمليات الانتخابية في أماكن أخرى، إلا أنها كانت محدودة للغاية، وهيمن عليها الطابع العائلي والعشائري.
السبب الرئيسي في ذلك عدم وجود شخصيات ديمقراطية حقيقية تحمل لواء الديمقراطية، وتقاتل من أجلها، وتقدّم نموذجا يبنى عليه، لأن الديمقراطية كثقافة لم تتخلل إلى النسيج الفكري لهؤلاء، وبقيت عنوانا لمعارضة النظام وإسقاطه. وغياب العملية الديمقراطية النزيهة حوّل المعارضة إلى منصّات سياسية مختلفة، ومنصّات عسكرية متباينة، تخضع كل واحدة منهم لاعتبارات المصالح الشخصية والدولية.
هكذا، جرت الانشقاقات داخل الحركات والأحزاب نتيجة الخلاف حول المحاصصات، وليس نتيجة الخلاف حول البرامج السياسية. وهكذا، نشأ مسار أستانة موازيا للائتلاف الوطني،
وهكذا رضي مقاتلون عسكريون كثيرون الانضواء ضمن صفوف النظام، لأن المعركة كانت عسكرية بامتياز، من دون أي أفق أو مشروع سياسي يلجأ إليه هؤلاء المقاتلون.
ولم يستطع هذا الواقع الهزيل للمعارضة السورية إنتاج كتلة تاريخية سياسية وازنة، تشكل عامل ضغط على النظام، ولا عامل ضغط على الدول الإقليمية والدولية، للوقوف معها في قضيتها. وما جرى هو العكس تماما، إن واقع المعارضة الضعيف والمُؤتمر بحسابات الدول، جعل من الثورة السورية أزمة سياسية دولية، تخضع فيها حسابات الدول للبراغماتية. وفي مثل هذه الحالة، سيبقى الوضع على ما هو عليه سنوات، وسيبقى النظام قائما، من دون أي تهديد يصيبه.
الحاجة إلى ديمقراطية حقيقية في صفوف المعارضة السورية باتت ملحة، للخروج من عنق الزجاجة، وإعادة الحياة السياسية للقاعدة الشعبية التي حملت على أكتافها أعباء الثورة السلمية.