المصريون يحلمون مجدّداً بالحرية

المصريون يحلمون مجدّداً بالحرية

29 سبتمبر 2019
+ الخط -
يقدّم عبد الفتاح السيسي لبعض نخبنا السياسية والثقافية نموذجا للحاكم القوي الذي يفرض الانضباط، ويضع حدا للفوضى والتسيب (اللذين تفرزهما الديموقراطية حسب رأيهم)، ويحقق، في الوقت نفسه، الرخاء الاقتصادي. عرفت المجتمعات البشرية الحديثة نماذج لحكام تحقّقت، في أثناء عهدتهم، مثل هذه المكاسب التي كان ثمنها أقدارا متفاوتةً من الخوف والرعب والقهر. ما زالت لهذا النموذج جاذبية لدى أوساط سياسية عديدة، ومنهم بعض نخبنا من القوميين واليساريين. ولجاذبية البزّة العسكرية للتيار القومي أكثر من مبرّر، إذ يبدو أن النموذج البسماركي ما زال حاضرا بقوة، وتؤكد كتابات نديم البيطار هذا المنحى. أما بعض أصدقائنا اليساريين، فإن بزّة ستالين، ومن بعده قادة آخرون للاتحاد السوفياتي والاستعراضات العسكرية الضخمة، تظل تدغدغ حلم الشيوعية الأممية العظيمة .. وعلى افتراض أن الحالة المصرية الراهنة المتّسمة بنظامٍ استبداديٍّ ستحقق الرخاء للشعب، من خلال توفير الرغيف والسكن، فإن هذه النخب لم تسأل نفسها: هل قدر الشعب المصري ألا يدرك هذا "الرخاء"، على افتراض تحقّقه إلا بمئات آلافٍ ملقى بهم في السجون وبمئات الإعدامات والإيقافات العشوائية التي طاولت الجميع، ولم تقف عند الإسلاميين؟ 
مرّت تونس تحت حكم بن علي تقريبا بالتجربة نفسها التي تمر بها مصر حاليا، إذ استطاع النظام تحت بطش الآلة الأمنية أن يلقي عشرات آلاف من معارضيه في السجن، وتفرم آلة تعذيبه المئات، حتى خلنا أن لا أحد قادر أن يعارضه، وترسخت أطروحة التصحر السياسي والثقافي الذي جرف حتى أصغر بذور المعارضة، خصوصا في ظل تواطؤ دولي، ويذكر التونسيون جملة الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، حينما زار تونس في 2003: "يكفي التونسيين أن توفر لهم الأكل والشرب ..". وما كان الأمر أن يستمر أكثر من عقدين، لولا تواطؤ النخب العلمانية واليسارية مع النظام، خصوصا في العشرية الأولى، إذ كانت تعتقد أنه يخلّصها من خصمٍ عجزت عن مقارعته بالحجة والبرهان.
قد يختلف الأمر في مصر قليلا عما كانت عليه تونس في عهد بن علي، فالإسلاميون في الحالة الأولى أثاروا خوف بعض المصريين، وعجزوا عن طمأنة الشارع الأوسع، وظلوا، حتى وهم في الحكم، طائفة سياسية تدير الدولة من خلال حلقات الدعوة والإرشاد. ولكن كلنا نعلم أنهم حين
 حكموا لم يرتكبوا مثل هذه الفظاعات التي تنال من الحريات الفردية والعامة كما يجري اليوم أمام أعين العالم .. ومع ذلك، هذه الذريعة غير كافية، بل تتهاوى إذا ما استحضرنا أن حالة القمع طاولت الجميع ولم تستثن أحدا، بمن فيهم من وقف على الحياد، أو سوّغ لذلك وصفق له، خصوصا في بداية الانقلاب. رأينا كيف رمى النظام في السجن عشرات المثقفين والإعلاميين، أو حاصرهم، وهم محسوبون على التيار الليبيرالي المنفتح (محمد البرداعي، عمرو حمزاوي، علاء الأسواني وغيرهم)، كما أن الزعامات والقيادات المصرية التي صدعت آذاننا في أثناء حكم مرسي، على غرار حمدين صباحي، لاذت بالصمت ذلولة.. أما بقية القيادات العسكرية التي بيّضت له صنيعه، فقد استطاع ضمن، دسائس العسكر ومخابراته، أن يسجن بعضهم، ويضع آخرين تحت الإقامة الجبرية (أحمد شفيق، سامي عنان، ..). لا يمكن وصف الحالة المصرية إلا ضمن خانة الأنظمة الشمولية التي يقودها أشخاصٌ أصابتهم الهستيريا وعظمة الجنون، تغذّيها أمراض مناشدات الفنانين وتهريج المتزلفين من رياضيين وفنانين وإعلاميين.
تقترب مصر من إحياء ذكرى اندلاع ثورتها المغدورة التي نهبها العسكر. الأسباب عديدة، ولا يمكن في أي حال أن يتحمّلها الإسلاميون وحدهم، مهما ارتكبوا من أخطاء. ثمّة من يرغب في تحويل الضحية إلى جلاد، في اعتداء صارخ على الحق والتاريخ، وحتى لا يواجه الحقيقة المرّة: كيف أمكن لشعب عظيم، ونخب متنورة، أن يستسلم بكل هذه السلبية لنظام مستبد. السؤال نفسه الذي كان التونسيون، وما زالوا، يطرحونه على أنفسهم، وهم يستعيدون حياتهم تحت بأس النظام البائد.. وكان الظن أن التخلص من نظام حسني مبارك حرّرهم إلى الأبد، ولكن ها هم يُبتلون بنظامٍ أكثر غطرسةً وأميةً منه. .. غير أن ما يحدث الآن في غير محافظة مصرية يؤكد مرة أخرى أن المصريين، مثل بقية شعوب الأرض، يعشقون الحرية، وأن أداة التزييف والقمع لم تأخذ عزتهم. يتوهم من يعتقد أن أشواق الحرية التي دغدغت أحلام المصريين ستتبخّر، بمجرد قمع هذه الاحتجاجات. نقد السيسي هنا ليس تحاملا على الشعب المصري، كما يتوهم بعضهم، وليس استهانة بالجيش المصري الذي نجله، ولكن عليه أن يعي أن السياسة للمجتمع والدفاع للعسكر. وإذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، ولو بعد حين. الانحباس الديموقراطي لن يطول، وجيوش الألفية الثالثة حتى في عالمنا العربي لن تظل عدوة لشعوبها.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.