المصافحة والقبلة وغيرهما... ضحايا كورونا

المصافحة والقبلة وغيرهما... ضحايا كورونا

04 يونيو 2020

(فرنشيسكو هايز 1791 - 1882)

+ الخط -
أضع الكمّامة على وجهي، وأخرج. أتقيّد بالمسافات المطلوبة، وأمشي على الرصيف. أحدّق بالوجوه، لعلّني أتعرّف على أحد. وبعد "خبرةٍ" بسيطة في المجال، أكتشف أن الوجوه لا تتساوى: هناك من أميّزه عن غيره بلا عناء، وهناك من أناديه من بعيد، لألقي عليه التحية المعتَمدة. ربما تبعاً للكمّامة نفسها التي تتفاوت أحجامها بين ما يغطي النصف الأسفل من الوجه بأكمله، فيصعب ساعتها تخمين صاحبها، وبين ما يغطي الفم وقليل من الذقن. أو ربما لأن درجة تعبير عيون صاحبها كبيرة، أو متوسطة، فيسهل ساعتها القول إنه هو. والرجال أصعب من النساء انكشافاً للهوية. ربما لأن النساء يتفوقن على الرجال بطلّتهن، وشعرهن، وهندامهن .. إلخ. 
أتشجّع أكثر، بعد فكّ الحجز، وافتتاح المقاهي، فأعطي مواعيد فيها، أو أتلقى مواعيد أخرى. طبعاً لا حاجة للقول إن هذه المقاهي شبه فارغة، عدد النُدل (جمع نادل) فيها يتجاوز عدد روادها. هم كلهم يضعون الكمّامة، وبعضهم يحمل معه قنينة سبيرتو، يفْرك يديه بها كل شويّة .. وعلى مدخل أحد المقاهي، ثمّة من يفحص درجة حرارة أولئك الرواد، بتلك الآلة شبيهة المسدس. المهم أنه، في بداية كل تلك اللقاءات التي لم تتجاوز الأربعة، يصيبني التكلّف، تُلْجم عفويتي. مثل السيف المتأهّب، تفقز التعليمات الهادفة إلى حماية حياتي: أردع اندفاعتي، أبتعد إلى الحدود "الآمنة"، أمتنع عن السلام بالصيغة الماضية، أحسب الأمتار بيني وبين أصدقائي. أراقبها، وهم أيضاً يراقبون. ومع الكراسي المتباعدة، الكمّامة التي يحافظ عليها بعض الموسْوسين، أو "العاقلين" من الحضور، فأعود وأتذكر مراحل السلام القديم ورُتَبه: بين السلام بإشارةٍ، من بعيد، إلى الأبعد من المعارف، وحتى الأصدقاء القدماء الذين جفّت معهم منابع الصداقة. وغالباً بانحناءة خفيفة للرأس، بزَيَغان العين، باصفرار الابتسامة. وهناك السلام بالمصافحة، أي يداً بيد، وهذه لأصحاب المنزلة شبه الحيادية. يزيد أو ينقص عنها الابتسامة، ليزيح عن الحيادية، سلباً أو إيجاباً. ثم هناك القبُلات الثلاث على الخد. ولا أعرف لماذا يتميز اللبنانيون عن بقية الشعوب بهذه الثلاث. لكنها القْبلة المتعارف عليها، وقد تكون تعبيراً عن فائضٍ في روح الضيافة، لكنها
 "متقدمة" عن سالفتها من مصافحة. ثم أخيراً، تأتي الأحضان، حيث يغمر الصديق (ة) صديقه بكل ما أوتيت أكتافه ويديه من حنان، ليتحول الحضن أحياناً إلى عناق حار. وهنا نكون في أعلى مراتب الودّ. كل هذا الكود الذي لا عمر له اختفى، واستُبدل بـ"بروتوكولات" الخروج إلى المقهى، أو أي مكان عام آخر. وهذا الاسم الفخيم، "بروتوكول"، لا أعرف أيضاً من تصيّده من قواميس التعاملات الراقية، والأرجح أنه يقصد أن يطمئننا، بما تنطوي عليه الكلمة من سمو وجدّية؛ فـ"البروتوكول" قانونٌ صيغ بالاتفاق بين الأطراف المعنية، وهو وحده يوحي بالثقة.
وكما في انمحاء نصف تعابير الوجه مع الكمّامة، كذلك اختفاء أحرف الكلام لدى بعض واضعيها. والسبب ربما هو النطق. وليس علّة انخفاض الصوت.. بعض الأحرف لا يخرج من واضعي الكمّامة، بحيث يشبه مكالمة هاتفية يقطعها بين الثانية والأخرى ضعف خطوط الإنترنت. يزداد هذا التقطّع عند بعضهم، أو يضعف، بحسب ماذا؟ فيما آخرون تفهم عليهم تماماً ماذا يقولون. لا تحتاج إلى الحرج، أو السؤال مرة ثانية عما يقصده .. ربما تكون الحناجر محظوظة، بنطقها الأحرف، وأخرى مبْتلية بخلل، لم يظهر إلا بعد كورونا.
قْبلة العشاق، أو المفترض أنهم كذلك، تواجه بدورها العقبات. معروفة هي قْبلة العشاق، الفم بالفم. ولكن أيضا، تسبقها أحيانا قْبلة اليد، أو أطراف الأصابع، لدى أصحاب الأناقة، أو النبلاء، أو المتردّدين، أو الملتبسين، أو الصادقين بأفلاطونيتهم .. أيضا، القْبلة على الجبين، في الأفلام العربية المرتدّة التي تجيد لعبة العفّة المفتعلة: يعشقها، فيقبلها على جبينها، حتى في ليلة دخْلتهما ..
القُبلة بالفم تعبيراً عن الحب لم تكن موجودة في التراث الفني الإسلامي التشكيلي. لا العربي، ولا الفارسي ولا العثماني. وكانت تُعتبر من اختصاص الفاحشين، الخليعين، وفناني ما تسمى اليوم "البورنوغرافيا". ولكن إبن عربي (1165م - 1240م) الذي تأثر بالصينيين القائلين وقتها إن قبلة الفم هي "مثال للملاطفة بين العشاق"، يصف القبلة بالفم، بما يغنيك الآن عنها، في ظل كورونا. يقول إنه عندما يقبل العاشقان بعضهما، كل واحد منهما يبتلع لُعاب الآخر. ويتابع إبن عربي، إنه بقبْلةٍ كهذه، يتسلّل نفَس الواحد في جسد الآخر، فيختلط النَفَسان (مالك شبل. "معجم الحب في الإسلام"). ربما نحتاج إلى تأريخ القُبلة بالفم من بعد تعرّفنا على الحضارة الغربية. لكن المؤكّد، إذا اعتمدنا الأفلام العربية القديمة، الأربعينيات وقليل من الخمسينيات، القْبلة بالفم بين النساء، ليست دلالة مثلية جنسية، إنما عاطفة عارمة.
المهم أن أوروبا، ومنذ القرن الثامن عشر، بدأت تظهر في فنونها القْبلة بالفم. وقد اشتهر من 
فنانيها كبار مثل فرنشيسكو هايز وأوغست رينوار وغيرهما. وقد تكون صناعة الأفلام الأميركية في هيوليوود قد تأثرت بهذا النوع من التراث الذي يناهض الفكرة الدينية عن العشق، فكرّست القْبلة بالفم بصفتها تجسيدا للحب، أو بدايته. ونحن أخذنا مثل هوليوود بالقْبلة بالفم، صفة من صفات العشق، فصارت كوداً مقيماً بيننا. تعبيراً عن الوثْبة الغرامية الخالصة، العفوية بدورها، الآتية من أعماق الأنفس. ولا حاجة للقول إن العشاق هم الأكثر تضرّراً من كورونا، بما وضعته من حدود على مجال تعبيرهم عن حبهم ورغبتهم. أما المؤتمّون على بعضهم، أي الأزواج العائشون تحت السقف الواحد، ولا خطر بالتالي على بعضهما من القبلة بالفم، فلن يكونوا أكثر تعاسةً من العشاق، لأنهم لا يحتاجون إلى قبْلةٍ كهذه. هم بالكاد يطيقان بعضهما..
الكود التلقائي بين الأصدقاء؟ الكود التلقائي بين العشاق؟ يجب أن ننساه. لبرهة؟ أو على طول؟ من يعلم..؟ فإذا طالت فترة الحذر من الفيروس، ومعها "بروتوكولات" التعامل معه، بحيث يتحول الفم مثلاً إلى منطقة "حميمة"، خاصة، مثل النهد، أو غيره .. لا يجوز الكشف عنه إلا خلف الحيطان، فإننا قد نخترع كودات للعلاقات بين الأفراد، عشاقاً كانوا أم أصحابا أم أصدقاء. وقد نستوحي من الآسيويين، أصحاب السلام البعيد، والوجوه المغلقة، والعواطف المقنَّنة، سبُلاً للتلاقي الشخصي؛ طالما أن الرياح صارت تهبّ من عندهم.. ولكن ليس قبل المرور بمرحلة "المسخ"، الواقعة بين قديم لم يمتْ وجديد لم يبْزغ بعد. أما إذا حصلت المعجزة، ووُجد بسرعة ما يكْبح جماح الفيروس، ولم يأخذ الفيروس وقته الكامل للتمكّن من عاداتنا، فهل سننظر إلى تلك العادات بالعين نفسها، التي كنا نراها بها؟ ونعود إليها كأن شيئاً لم يكُن؟