المشاهد الأولى للجوء في ألمانيا... أبناء الشمس وسط الزجاج(1)

المشاهد الأولى للجوء في ألمانيا... أبناء الشمس وسط الزجاج(1)

03 يناير 2016
ألمانيا "العجوز" أمام تحدّي تزاوج الثقافات الملوّنة (فيليب غولاند/getty)
+ الخط -
فور الوصول إلى برلين، تدخل تاريخها وحاضرها وتستحضر ما هو آت إليها. تدخلها مجسّدة في كنائس ومتاحف وتماثيل وأبنية، هي بعض ما بقي من برلين التي دُمّرت في حروب سابقة. وفي أبنية شاهقة، هُندست بدون ملامح أو ألوان، تعكس تاريخ بناء مدينة مهزومة. وفي مجسّمات أو رموز تخلّد تاريخ "أسود" ليبتزّ الألمان دوماً، ويدفعهم إلى التحرّك في دوامة عقدة الذنب. وفي وجوه ملوّنة، اختلطت في ملامحها إثنيات مختلفة. دخلها مهاجرون جدد، انتشروا في شوارعها وأزقتها، وفي مبانيها التي تحوّلت إلى مراكز إيواء، وأحياناً في قوارب أو خيم أُقيمت على عجل، وتفتقر إلى أبسط مقومات العيش. تلقاهم في المواصلات العامة. وفي المصعد، حيث يرحّب عامل ألماني علا الشيب رأسه، بشباب سوريين بقول "مرحبا"؛ الكلمة التي صارت مستخدمة بكثرة في العاصمة الألمانية. وتلقاهم في الفنادق، التي تعاقدت الحكومة الألمانية مع البعض منها، لاستضافة لاجئين قاصرين.

الملامح الآتية

من سورية، دمشق وحلب وإدلب واللاذقية، إلى عين العرب. ولبنان، جنوبه، صور والنبطية وصيدا، إلى شماله، طرابلس والهرمل، ومخيماته في عين الحلوة وبرج البراجنة. من العراق، بغداد والبصرة والموصل، من المغرب العربي والصومال والسودان ومصر. من أفغانستان والهند، وإيران، أهوازها وعاصمتها. من البلقان، البوسنة وألبانيا وكوسوفو.

رجال، نساء وأطفال، تجمّعوا أفواجا أفواجا ليبدأوا رحلة الهجرة إلى الشمال، مخلّفين وراءهم أوطانا أوجعتهم أو لفظتهم. أوطان صنع بعض حكّامها من أبنائها أعداء لهم. عبروا البحار، وساروا في البراري ساعات وأياما في أحيان، قبل أن يختاروا "أوطاناً" جديدة في القارة العجوز؛ فرنسا، هنغاريا، النمسا وإسبانيا أو ألمانيا. لتبدأ هنا القصة الأولى للانسلاخ عن الوطن والولوج بوطن جديد.

الوصول إلى ألمانيا، سواء هامبورغ أو برلين أو ميونيخ في بافاريا وغيرها من الأقاليم، ليس إلا بداية الحكاية مع اللاجئين القادمين من إثنيات وثقافات وأديان مختلفة، ليندمجوا في مجتمع مهجّن من شعب ألماني يشيخ (عام 2060 سيصبح أكثر من ثلث سكان ألمانيا فوق سنّ الـ 65)، ومهاجرين قدامى (يشكّلون خمس سكان ألمانيا الـ82 مليونا)، قد يجد بعضهم في الوافدين الجدد منافسين لهم في "الوطن البديل". 

إجراءات معقدة، وعمليات فرز إلى "كامبس" أو "هايمز" (مراكز إيواء)، سواء داخل برلين أو خارجها. ومحاكمات متتالية للحصول على حق اللجوء، واستخراج "وثيقة سفر" تُحمل لرؤية الأهل وريّ اشتياقهم، في "مكان ما"، على الأرجح لبنان أو تركيا، بحسب ما يقول المهاجرون السوريون تحديداً. يتخللها تعلّم اللغة ونشاطات للاندماج، ومواجهات (بالمعنيين السلبي والإيجابي) مع الألمان؛ الأصليين أو المهاجرين القدامى، لا تخلو من استعادة شريط ذكريات الوطن وأنينه ورحلة الهجرة، الذي يتفق الجميع على أنها نهائية، وهنا الحكاية كلّها، رغم برد برلين القارس الذي يخترق أجسادا نحيلة اعتادت الدفء.

الواضح من الإجراءات المعقدة، التي تستغرق شهوراً، وبرامج الاندماج العفوية، ومراكز الإيواء، أنّ ألمانيا تفتقر حتى الآن إلى البرامج والخطط المتكاملة لاستيعاب المهاجرين (البيانات الرسمية الأخيرة تشير إلى 950 ألف لاجئ هذا العام، وكانت بيانات عام 2014 تتحدث عن 173 ألف لاجئ، 20 في المائة منهم سوريون). ولا تزال تعيش صدمة التدفق الهائل للموجة الأخيرة هذا العام من المهاجرين، التي ستحدّد مستقبل ألمانيا؛ فهذه الموجة تتسم بأنّها شابة، ستكون رافعة للاقتصاد الألماني ومجتمعه "العجوز"، لكن في الوقت نفسه تضع البلاد أمام تحدّي تزاوج الحضارات والثقافات الملوّنة، واحتمالي صدامها أو حوارها. فيما لا يخفي البعض خشيته من اضمحلال الألمان بعد عقود من الزمن، ليحلّ مكانهم مجتمع هجين جديد، ولعلّ هذه الفكرة المتناقلة في مجالس الألمان هي ما يغذّي عنصرية النازيين الجدد والحركات اليمينية، وتدفعها إلى حرق خيم اللاجئين، والاعتداء عليهم.

اللافت أن غالبية المهاجرين، لديهم أقارب أو معارف في ألمانيا، وهذا كان السبب الرئيس لاختيارهم اللجوء إلى هذه البلاد، وأنّ الغالبية من الميسورين، أو على الأقل ليسوا من المعدومين، وإلا فكيف كانوا سيتحملّون كلفة الهجرة والتنقل من بلد إلى آخر، ثم الانتظار للانتهاء من إجراءات اللجوء، قبل الحصول على معونة تقدّر بـ 320 يورو شهرياً؛ ومما لاشك في أنها كلفة باهظة لا يقدر على تحملها الفقراء، الذين يظلّون وقوداً للحرب في بلادهم. وبالنسبة للسوريين، فإن اللافت فيهم أنهم ليسوا أبناء الثورة البتة، بل أبناء الحرب؛ يجتمع فيهم الهارب من آلة قتل النظام، والهارب من قتل "داعش"، والهارب من الثورة نفسها.

"السوسيال".. الخطوة الأولى

بداية إجراءات اللجوء في ألمانيا تكون من مراكز استقبال موزّعة على الأقاليم، حيث يفترض أن يقوم أي لاجئ أو مهاجر بما يطلق عليه "تسليم نفسه"، في حالة دخوله إلى البلاد ثم هروبه من شرطة الحدود، أو تسلّمه الشرطة، التي تأتي بالمهاجرين في حافلات يومية إلى المركز.

في تروم شتراسي في العاصمة برلين، الشارع 21 منه، يقع المركز الرئيسي للاستقبال، حيث مبنى يتواجد فيه المسؤولون عن تسجيل اللاجئين، إلى جانب ثلاث خيم لاستقبال اللاجئين وفرزهم.. يسمّيه المهاجرون "السوسيال".

في الخيمة الأولى للاستقبال،  تؤخذ بيانات اللاجئ. وفي الثانية، يُفرز اللاجئون بحسب جنسياتهم. في هذه الزاوية كُتب على جدار الخيمة روس (ويقصدون بها دول الاتحاد السوفياتي السابق). وفي تلك أفغان. وهناك السوريون. وإلى جانبها اللبنانيون... وهكذا. وحين يكون اللاجئ قد وصل إلى الخيمة الثالثة، بعد ساعات طوال من الانتظار، يكون قد حان وقت الرحيل إلى "الكامب" المؤقت الذي فُرز إليه، وقد عُلق حول معصمه سِوار بلاستيكي، يقول المشرفون إنه مجرد جزء من "إجراء إداري" لتسهيل عملية الفرز. المشرفون داخل الخيم يكونون في العادة من أصل عربي أو أفغاني أو تركي، لتسهيل مهمة التواصل بين المسؤولين الألمان واللاجئين. 

في مرحلة لاحقة، يفرز اللاجئون في مراكز إيواء دائمة أو ما يسمى "الهايمز". وليس بالضرورة أن يأتي الفرز في برلين إن كان التسجيل الأول للدخول فيها، فأحيانا كثيرة ينقل اللاجئون إلى أماكن بعيدة في فرانكفورت أو هامبورغ.

لا تتشابه "الكامبس" (المركز الأول والمؤقت للإيواء) أو "الهايمز" (المركز التالي والدائم). يتحدث المهاجرون عن مراكز في حالة مزرية، بعضها عبارة عن خيم تتوفر فيها مراحيض بلاستيكية، وتفتقر إلى أماكن الاستحمام، ما يضطر المشرفين عليها إلى نقل المهاجرين بحافلات، بشكل يومي، إلى أماكن مخصصة للاستحمام. 

أمام "السوسيال"، يمتد خط انتظار طويل يصل إلى عشرات الأمتار، يقطع في كثير من الأحيان الشارع العام إلى الجهة المقابلة. يبدأ هذا الخط بالتشكّل في ساعات المساء، ويطول الانتظار في درجات حرارة متدنية إلى ما دون الصفر، حتى الصباح، حين تفتح المكاتب الإدارية لتسجيل اللاجئين، الذين تم فرزهم داخل الخيم الثلاث أعلاه، والذين يعودون لتأكيد الحضور مرة أو مرتين في الشهر. المكوث وسط الصقيع في الظلام الحالك، يتطلب البحث عما يجلب الدفء. قد يكون أحياناً، برقصة "دبكة" في الشارع على أنغام تصدح من هاتف خليوي، فيما يفضل شاب عربي، دخل خط الانتظار في ساعات المساء، الانتظار بهدوء مع كأس "نبيذ" كي يدفع عنه صقيع برلين القارس.

اقرأ أيضاً: الهجرة الثقافية العربية الى فرنسا

المساهمون