المسنّون دروع بشرية في الحرب على كورونا

المسنّون دروع بشرية في الحرب على كورونا

02 ابريل 2020

امرأة تحتاط من كورنا بالكمامة في موسكو (27/3/2020/Getty)

+ الخط -
من زمان، قبل فيروس كورونا، كانت المجتمعات الغنية و"المتقدمة" تتباهى كل سنة بإحصائيات تبيّن مدى امتداد العمر فيها؛ "صرنا نعيش فوق التسعين.. وربما نصل إلى تخليد الإنسان، بحيث يعيش مئتين، ثلاثمائة، أربعمائة.. قرونا متوالية، بفضل الأبحاث والاكتشافات والعلاجات"؛ وإلى ما هنالك من اختراعات، كانت المختبرات التجارية واختصاصيو الشيخوخة يعتاشون منها، ويغتنون، فكان حلم كل مواطن العمل طوال شبابه، ثم براتب التقاعد، والراحة معه، وإمكانات التمتع بالحياة مجدّداً. وكنتَ ترى في أرجاء العالم "الجميل"، والعتيق، طوابير السياح من المسنّين، يجوبون الآثار، والطبيعة، وحتى الجنس؛ وقد ازدهرت اقتصاداتنا في بلادنا بفضلهم، وبفضل القروش التي كانوا يغدقونها على شركات الطيران والسياحة والفندقة.. إلخ. سياحة "جماهيرية" حوّلت السفر إلى مادة استهلاكية، تجذب كبار السن قبل غيرهم، في رحلاتٍ ينظمون أيامهم على مواقيتها. والذين لا يستطيعون السفر، نظراً إلى تداعي صحتهم، كانت تخصّص لهم الملاذات، "بيوت" خاصة بهم، تديرها طواقم الأطباء والممرِّضين والمعالجين النفسيين وحتى المتطوّعين؛ وقطاعات منها، متفاوتة الترف والنظافة والسكن والخدمات، بحسب "السعر". 
في الوقت نفسه، كانت عبادة الشباب تزدهر، وتدخل إلى عيادات التجميل نساء، ومن بعدهن رجال، حيث يخضعون للإبر والأشعة والعقاقير والعمليات الجراحية، لتجديد الشباب "ظاهريا"، حتى ولو على حساب الجمال، إذ باتَ الفصل مستحيلاً بين الصبا الجمال. الاثنان أصبحا معياراً واحداً لـ"المظهر الحسن"، الخالي من التجاعيد، سيد المقاييس. هذه الازدواجية بين بيع الأوهام والأحلام وعبادة صنم اسمه "الشباب الدائم" كانت تتيح المجال لثغرة، يتسلل إليها الهوَس بالربح، عنوانه "الزبون السينيور"، يقولون، بنوع من التسويق الذكي، يقوم على التخفيف من مفردة "شيخ"، أو "كهل"، التي تثير قشْعريرة الزبون المسنّ.
ثم بدأت رواتب التقاعد و"التقديمات الاجتماعية" تُضرب، بعدما أخذت الحكومات تتلَبْرَر، تنخرط في منطق السوق، تسرق هذه الرواتب بخبث، تقتطع منها أرقاماً، وترفع الضرائب. فيتعرّض أصحاب الحياة المديدة لأكبر انتهاك لممارسات الطب والعلاج؛ إذ لم تعد الحكومات تعطي للصحة الميزانية التي كانت لها سابقاً، ولا المستشفيات ولا الأطباء في وارد الخدمة بالتالي، إنما الربح السريع.
هكذا، أخذت المجتمعات الغنية تلتحق بالفقيرة؛ فتعاني، منذ العقدين، من تراجع خدماتها الطبية، 
وتراجع صحة مواطنيها الفقراء؛ وأعني بـ"الفقراء" هنا متوسطي الحال الذين لا يملكون الملايين أو المليارات. حتى الجراحة التجميلية، وقد صار لها أطباء، متخصِّصون وغير متخصِّصين، تحولت إلى ما يشبه صناعة الشمع بقالب واحد. والسياحة تبهدلت، والطائرات الحاملة جماهير الركاب تفتقر إلى السلامة والنظافة والخدمات والمواقيت المنتظمة؛ والمواقع السياحية صارت واجهة، صورة تجارية، تلتقطها جماهير السياح، لتخلّد لحظة السعادة هذه، الوحيدة ربما في تلك الرحلة.
كان هذا قبل كورونا. أما بعدها، فانطلقت الميول الدفينة وشبه المعلنة تجاه كبار السنّ، ولم تسترِح حتى الآن. بدأت في إيطاليا، حيث شرَع الأطباء بإعطاء الأولوية للشباب من المصابين، بشيءٍ من الخفر، نظراً، ربما، لتعلّق الإيطاليين التقليدي بآبائهم وأجدادهم. وهذه النوعية من الأولويات صرتَ تسمعها، بصيغها المختلفة، ومفادها أنه إذا حضرت "حالتان" إلى ذلك المستشفى، لواحدة شابة وأخرى مسنّة، فسوف يتم اختيار الشابة. المهم، هذا الميل، "الخفيف"، إذا جاز وصفه هكذا، تبلور مع الإجراءات التي اتخذها دونالد ترامب، الرئيس الأميركي، ومعه بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني. ماذا قال الاثنان تحديداً؟ قالا إن الحياة، أي الوقاية من الفيروس بالبقاء في المنزل، يجب ألا تتوقف عن "الإنتاج"، أي الخروج منه، لمواصلة مراكمة الثروات. وإن "الذين يأكلون ولا نفع لهم" (العبارة لترامب ومثله جونسون)، "المتقاعدين" تقاعدا شحيحاً، أو العاطلين من العمل، الفقراء الفقراء .. وهم أكثر تعرّضا للفيروس بسبب سنّهم.. فليموتوا.. إنهم لا يضيفون فلساً واحداً إلى صندوق "الازدهار الاقتصادي". كلمات أكثر صراحة، أتت على ألسِنة نواب الرئيسين ومستشاريهم وصحافييهم، الذين أخذوا يروّجونها في الإعلام. من أن على المسنّين، في ظل انعدام الوقاية، الضروري للاقتصاد، أن يتوقعوا الموت الحتمي.
لكن المفارقة أن هؤلاء الذين يحولون كبار السنّ إلى دروع بشرية في الحرب على كورونا هم
 أنفسهم مسنّون، أو يقتربون من الكهولة. ترامب، الذي يبالغ في إخفاء عمره، على ذوقه الخاص وطريقته، عمره 74 سنة، ومنافسيه الديمقراطيين تجاوزا السبعين. وبوريس جونسون يقترب من الستين (عمره 56 سنة)، فهل يكون الموضوع عدم انسجامهم مع عمرهم، عدم اعترافهم به؟ أم أن القصة أبعد؟ تراها في مصالح الرجلين، في مصالح الفئات التي يمثلانها ويدافعان عنها، أصحاب الملايين والمليارات؟ هؤلاء لا مشكلة لديهم مع كورونا. كلهم تقريباً يملكون طائرات خاصة، يخْتات خاصة، منازل شاسعة واسعة، تحيط بها الأشجار والحدائق. وحتى لو أُصيبوا بها، فلن يتوجهوا حتماً إلى المستشفيات الحكومية، بل سيأتي إليهم المستشفى الخاص. المهم ألا تتوقف عجَلة "الازدهار الاقتصادي".
نعم هؤلاء المسنّون يشنّون حرباً لئيمة على المسنّين، ولكن ليس كل المسنّين. إنما هؤلاء الذين اعتلّت صحتهم بالأصل، وبشقاءٍ متفاوت، في العمل من أجل كريم عيشهم. هؤلاء الذين توهّموا أن حضارتهم الغنية سوف تقيهم من شرور العمر، وأن الدلال الذي ينعمون به عائد إلى القيمة الروحية والعاطفية التي كانت حضارات أخرى تمنحها للشيوخ.. الذين لم يفطنوا قبل كورونا أن هذه الحضارة مدمِّرة للإنسان، والذين انساقوا خلف شعارات زعمائهم الشعوبية، القاتلة لهم برصاص فيروس خفي. ومطلوبٌ منهم اليوم أن يموتوا حفاظاً على ثروات مسنّين آخرين، أقل عدداً، تفوق ثرواتهم المليارات. صراع طبقي، مختلف عن أيام البروليتاريا والقيادة العمالية. بين غالبية فقيرة، مسنّة، معرّضة، شبه علناً، للقتل عن طريق الموت من فيروس كورونا، وأقلية من المليارديرية والمليونيرات المحْتَمين بقصورهم، أصحاب مناعة وصحة، مدفوعة تكاليفهما الباهظة من جيوب تلك الغالبية.
تراجعَ ترامب وجونسون عن قراراتهما الأولى، وإنْ لم يذعنا للوقاية التامة. ترامب يديرها بفوضى عارمة، وجونسون بسينيكيّة الذي يعلم أن جدارته الوحيدة هي الضحك على جمهوره القطيعي. الباقون ليسوا ملائكة. عن الصين، نعلم القليل. إعلام الصين مراقَب. لم يصل إلينا بدقة سوى عدد الملياردرات والمليونيرات الصينيين. إنهم يفوقون الآلاف. وهم بالتأكيد من الحزب الحاكم، من قياداته. لذلك لا نتصوّر أن رئيسهم جي شين بينغ، البالغ 67 سنة، ستكون توجهاته "العمْرية" أكثر عدلاً. نتكهَّن، ولا نعلم بالضبط. لروسيا وضعية شبيهة. مليارديرات ومليونيريون روس، منهم رئيس بلاد، عمره 68 سنة، كان أعدّ، قبل كورونا، تعديلاً للدستور يسمح له بالحكم حتى يبلغ الثمانين. وهو على كل حال يبدو متواضعاً بالمقارنة مع ترامب الذي منح لنفسه أبدية في الحكم بعد فشل خصومه في إقالته. ولا شيء يسمح بالتصوّر أيضا أنه سيختلف، من هذه الناحية، عن ترامب وجونسون، أو الرئيس التركي أردوغان، 66 سنة؛ ومُجايله، المصري، عبد الفتاح السيسي، أو الإيراني حسن روحاني، 72 سنة؛ أو مرشده الروحي، علي خامنئي، 81 سنة، أو الرئيس اللبناني، 85 سنة: "بيّ الكل"، أي "والد الجميع"؟