المسافة بين القانون و"دولة القانون"

المسافة بين القانون و"دولة القانون"

24 ابريل 2014

معتقلون عراقيون قبل مثولهم أمام محكمة (أرشيفية)

+ الخط -
في "دولة القانون"، التي تقول حكومة نوري المالكي في العراق إنها تسعى إلى بنائها، تبدو المسافة بعيدة جداً بين الدولة والقانون، فالدولة التي تشرّع قانوناً خاصاً للتسريع بتنفيذ أحكام الإعدام، وتعطي مهلةً، أقصاها عشرة أيام، لترتيب إجراءات إزهاق الأرواح، لا تستحقّ صفة "الدولة". وإقرار القانون الجديد يعني أن "دولة القانون" تسلب حق المتهم في التظلُّم من حكمٍ جائرٍ صدر بحقه، وتسقط حقه الشرعي في الدفاع عن نفسه. يجيز القانون الجديد لرئيس محكمة التمييز المصادقة على أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم الجنائية الأدنى، مع نائبه فقط من دون الحاجة لسائر الأعضاء، وهذا يعني الإخلال الفادح بالإجراءات القضائية التي تهدف إلى إقرار العدل، ولا يوفر للقضاة الفرصة الكافية لتدقيق وقائع القضايا المحالة إليهم، ولتبادل الرأي، ومناقشة الحجج القانونية التي، على أساسها، تقرّر الحكم بالإعدام، ما قد يودي بحياة أُناسٍ أبرياء.
وتعتمد إجراءات التحقيق الأولى، في حالات موثّقة كثيرة، على تقارير المخبرين السريين، وأكثرها كيدية، ولا يمكن الركون إلى مصداقيتها، كما تفتقر إلى معايير العدالة المطلوبة. وثمّة شكوك في سير إجراءات المحاكمات وطرق الدفاع والطعن، والقضاء العراقي نفسه لا يتمتع بقدرٍ من الاستقلالية أو الحيادية التي تضمن له الحصانة من التأثيرات الخارجية. إذ كثيراً ما يتدخل رئيس الوزراء، أو الوزراء المختصون، أو حتى رجال الحلقات الضيّقة المحيطة بهذا المسؤول، أو ذاك، لتشديد العقوبة على متّهم، أو تبرئة آخر، لاعتباراتٍ سياسيةٍ محضة، كما هي واقعة سياسي معارض حكم عليه بالإعدام، وعندما "تصالح" مع رئيس الوزراء، أعيدت محاكمته، في جلسةٍ استمرت نصف ساعة فقط، وانتهت ببراءته. وثّقت منظمة العفو الدولية حالات كثيرة، أجبر فيها متهمون على الإدلاء باعترافات كاذبة، أو التوقيع على إفادات معدّة سلفاً تحت وطأة التعذيب بالكهرباء، أو في ظل تهديدهم بالاغتصاب، كما سجلت حالات إجراء محاكمات لمتهمين في جلسة واحدة، استمرت ساعتين فقط، حكم فيها على المتهمين بالإعدام. ما هو أفظع، تفصح عنه رسالة قصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حملت بين ثناياها مأساة أسرة عراقية، نُكبت بولدها الشاب الذي لم يُكمل دراسته الجامعية بعد.

زهير كاظم، من سكان منطقة العامرية في بغداد، واحد من مئات، وربما آلاف، اعتقلتهم السلطة قبل أكثر من عام، إثر تظاهرات شعبية نظمتها قوى مدنية ضد استشراء الفساد، وانعدام الخدمات، والمحاصصة الطائفية، وقد وجّهت إليه تهمة "الإرهاب"، وبرّأته المحكمة المختصة في ما بعد، لعدم توفّر أي دليل ضده، ولم يطلق سراحه، وفق ما ينبغي أن يتم، بل نقل إلى مركز اعتقال، وتمت عملية إعدامه هناك بدم بارد! لم يعد ذلك كله غريباً في "دولة القانون"، الغريب أن مَن تبنّت مشروع القانون الجديد هي وزارةٌ اسمها "وزارة حقوق الإنسان"، ومَن دعت إلى إقراره هي منظمة مدنية اسمها "هيئة صوت الضمائر"، والتي هددت بالنزول إلى الشارع، إذا ما أُجّل عرض القانون على البرلمان، تحت زعم أن هؤلاء المحكومين بالإعدام "إرهابيون"، ومنهم "الذين يقاتلون الدولة في محافظة الأنبار"، بحسب بيان المنظمة، وأيضاً، برأي وزير العدل، حسن الشمري، أن المحكومين بالإعدام "إرهابيون، لا يمكن تخليص المجتمع من شرورهم إلا بإنهائهم".
الغريب، أيضاً، تصريح وزير حقوق الإنسان، محمد شياع السوداني، أن الوقت لم يحن بعد، لإشاعة حقوق الإنسان في العراق، ما يعني، بنظر الوزير الذي أوكلت إليه مهمة حماية الإنسان العراقي، ورعايته، والدفاع عن حقوقه، أن العراقيين غير مؤهلين للحصول على حقوقهم كبشر، وأن من حق "النُخبة" الحاكمة المتسلّطة على مقدّراتهم أن تفرض الوصاية عليهم، وأن تقرّر إفناء مَن تراهم مخالفين لتوجهاتها. في العامين الماضيين، أعدم مئات تحت لافتة "المادة 4 إرهاب"، والتي يمكن أن تطوّق رقبة أي ناشط أو سياسي معارض، وقد أعدم عشرات أو اغتيلوا من دون محاكمة، وألف ومئتا محكوم آخر ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام فيهم قريباً، في أكبر مجزرةٍ بشريةٍ تتم في دولة عضو في الأمم المتحدة. والرقم ليس من عندياتنا، فقد ورد على لسان وزير العدل، الذي أوكلت إليه مهمة إحقاق الحق وإرساء العدل بين الناس، وعدل وزير بين رعيته أفضل من صلاة ألف عام! القانون الجديد يمثّل تقويضاً لمبدأ العدل، وتفويضاً للدولة بممارسة سلطة القتل من دون ضوابط، وإزهاقاً للأرواح من دون مسوّغ، وهو يُخالف العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي لا يجيز فرض عقوبة الإعدام إلا في أضيق الحالات، ويعزّز حجّة القائلين إن حكومة بغداد تمارس إرهاباً ضد مواطنيها، وتستخدم شتى وسائل العنف التي تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان. وقبله كانت قد أباحت لنفسها التوسّع في تطبيق قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لعام 2005 الذي شرّعته ما سمّيت: "الجمعية الوطنية العراقية"، والتي نصّبها الاحتلال بغرض مواجهة تصاعد حركة المقاومة، ومتوكئة على نصوصٍ "حمّالة أوجه" غامضة، وغير دقيقة، اعتبرت الأفعال التي تهدف إلى "إلقاء الرعب بين الناس" و"تهديد الأمن والوحدة الوطنية وسلامة المجتمع"، أعمالاً إرهابية، بحيث أصبح في وسع الحكومة محاكمة أي ناشط بتهمة الإرهاب، ومن ثم الحكم عليه بالإعدام.
وهكذا، "إذا لم تحترم الدولة قواعد العدالة، فإن العدالة لن تحترم قواعد الدولة"، كما يقول فرانسيس بيكون، والدولة عندما تكون أكثر تطرفاً في ممارسة الإرهاب من الفرد نفسه، لا تعود دولةً، بل تصبح أقرب منها إلى نوع من أنواع المافيا، تفرض على الآخرين الطاعة والإذعان، وتمارس ضدهم أقصى درجات العنف، وأقسى أنواع الاضطهاد والقمع. لا يهمّ إنْ تمّ ذلك تحت راية الديموقراطية، أو تحت زعم أنها تخوض "حرباً وقائية" لمواجهة الإرهاب الذي تمارسه جماعاتٌ خارجةٌ على القانون، أو أنّ ما تفعله يتم في إطار درء الفتنة، والفتنة لا تُدرأ بفتنة أكبر منها. حكومة بغداد، بتشريعاتها الشريرة، تحلّل سفك الدم العراقي بغير حق، و"لَزوالُ الدنيا جميعاً أهون على الله من دمٍ سُفك بغير حق".   

 

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"