Skip to main content
المرحلة ما قبل الأخيرة كُردياً
آلان حسن
أحد السوريين الأكراد لاجئا في داخل الأراضي العراقية (20/10/2019/Getty)
بات الآن كل شيءٍ واضحاً بعد سنوات من الحالة الضبابية التي اتشحت بها الحالة الكُردية في سورية، من تحالف مع الحكومة السورية بدايات الثورة ربيع عام 2011، إلى الاستدارة نحو الولايات المتحدة عقب معارك استعادة السيطرة على عين العرب (كوباني) أواخر عام 2014، إلى مرحلة غياب أي حليف عقب العملية العسكرية التركية المسمّاة "نبع السلام" أواخر عام 2019. 
كان مشروع الإدارة الذاتية ضرورة مرحلية عقب انسحاب جيش النظام السوري من المناطق ذات الغالبية الكُردية إبّان الحرب في سورية، الأمر الذي أحدث فراغاً إدارياً ملأه حزب الاتحاد الديمقراطي بالتنسيق مع الحكومة السورية في سبيل منع دخول فصائل المعارضة السورية المسلحة، ولاحقاً التنظيمات الأصولية إلى هذه المناطق. وكانت سيطرة تنظيم (داعش) على معظم مدينة عين العرب قد حوّل مسار تحالف "الاتحاد الديمقراطي" إلى نقطة لم يتوقعها هذا الحزب الماركسي في أيٍّ من مراحل تأسيسه منذ عام 2003، وهي التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية (رمز الرأسمالية العالمية)، كان هذا نقطة تحول في مسيرة الحزب، وجعله يدخل في عدة مشاريع كانت بعيدة عن إيديولوجيته اليسارية.
كان تحالف "الضرورة" ذاك بداية لنشوء قوات سوريا الديمقراطية (تشكل وحدات حماية الشعب عمودها الفقري)، وكذلك ذراعها السياسية، مجلس سوريا الديمقراطية "مسد".
أصبح اسم قوات سورية الديمقراطية (قسد) مرادفاً للانتصارات على تنظيم (داعش) إلى انتهاء وجوده العسكري في منطقة شرق الفرات في مارس/ آذار 2018. لم يستطع المجلس أن 
يُجاري انتصارات قواته على الأرض، ظلّ على الدوام ظلاً له، ولم يقدّم سوى مشروع يتيم، حشد كل جهوده لتأسيس فيدرالية مجتمعية ربيع عام 2016، حملت اسم "الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا". ولعله مشروع أضرّ باتساق المشروع السياسي للحزب، وكذلك بأهل المنطقة، وفي مقدمتهم الكُرد، ذلك أن جميع فرقاء الأزمة السورية قد أجمعوا على اعتباره مشروعاً انفصالياً ينبغي وأده قبل أن يرى النور، كان التحوّل من الإدارة الذاتية إلى الفيدرالية صكّ إدانة ضد الشعب الكُردي من الحلفاء قبل الخصوم.
راهن مجلس سوريا الديمقراطية بشكل مطلق على الولايات المتحدة، وغضوا الطرف عن جملة حقائق برزت في أثناء الحرب السورية، مفادها أن روسيا الاتحادية هي التي تمسك بخيوط اللعبة في سورية، وأن مفتاح حلّ أيّ ملف يمرّ عبر الكرملين، مروراً بوزارة الخارجية الروسية. وكانت العلاقة العسكرية بين "قسد" ومؤسسات الإدارة الأميركية هي مع وزارة الدفاع (البنتاغون) وحسب، حيث إن البيت الأبيض ظل ينأى بنفسه عن الخوض في أي مشروع مستقبلي في سورية. ولم تضغط وزارة الخارجية الأميركية لإشراك أي ممثلين مفترضين لها في العملية السياسية الجارية منذ بدايتها عام 2014. أما وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، فقد ابتعدت عن المشهد السوري تماماً بعد فشلها في تدريب المعارضة السورية ثلاث سنوات.
والغريب أن الرهان على الولايات المتحدة استمرّ حتى بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أواخر عام 2018 نيته سحب جميع قواته من سورية خلال ثلاثين يوماً، وتأكيده إنكار أيّ أهمية لسورية في القاموس الأميركي. كان ترامب واضحاً حين وصف سورية ببلد الرمال والموت وحسب، وأنه يصرف مالاً كثيراً من دون طائل. ومع ذلك، أصرّ بعض الساسة في شمال سورية وشرقها على تغيير الموقف الأميركي والمراهنة على بلورة استراتيجية أميركية في سورية، بعد غيابها طوال سنوات الحرب السورية الثماني.
وكان يمكن أن يعتبر الموقف الأميركي أخيراً بالسماح لتركيا بالتوغل داخل ما باتت تعرف 
بالمنطقة الآمنة، بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، وبعمق 32 كم، المسمار الأخير في نعش التحالف الهشّ ذاك، لكن الرهان المفاجئ كان على مواقف بعض النواب في مجلس الشيوخ الأميركي.
اتفقت "قسد" على مضض، مع الحكومة السورية، وبرعاية روسية، على نشر الجيش السوري في بعض المدن الحدودية، وكذلك في المناطق التي كان متوقعاً توغل الجيش التركي فيها، وهذا ما كان، وبسرعة قياسية، فقد كان انتشار الجيش السوري مانعاً تقدّم القوات التركية باتجاه مدن تل تمر وعين عيسى ومنبج، لكن ذلك لم يشفع للاتفاق بأن يستمر بالوتيرة نفسها، فظلّ الرهان على تغيّر ما في موقف الرئيس ترامب الذي كان يواجه ضغوطاً داخلية وخارجية، لتغيير موقفه من احتمال حصول "إبادة للكُرد"، وليس لمبدأ الانسحاب. وليس أدل من ذلك مواقف قيادات "قسد" وزيارات مسؤولي "مسد" للولايات المتحدة للحصول على فرصة جديدة لعودة العلاقات مع الولايات المتحدة.
سيكون الاتفاق الروسي التركي المعلَن أخيراً الحل ما قبل النهائي لقضية شرق الفرات، فعلى الرغم من بنود سلبية فيه، إلا أنها تقي سكان شرق الفرات شبح الحرب، وتعطي المجال للحل السياسي عبر الحوار بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية، وبرعاية روسية. وهذا الحوار، وإن تأخر، سيصبّ في مصلحة جميع السوريين، فشرق الفرات جزء أصيل ومهم من سورية، والنسيج الاجتماعي السوري لا يكتمل إلا بوجود شعوبها كلها. وعليه، على مفاوضي الإدارة الذاتية والحكومة السورية أن يكونوا مرنين لتحقيق اتفاقٍ يصبو إليه الجميع، وأن يبتعدوا عن التصلب في المواقف، وألّا يكون التعامل وفق مبدأ المنتصر والمهزوم، فالانتصار للجميع، وكذلك الهزيمة. تتطلب المصلحة العليا لسورية التعالي على فكرة الانتقام، والمضي في عمليةٍ سياسيةٍ تزيد من التماسك المجتمعي الذي آذته الحرب كثيراً، والانفتاح على التنوع الثقافي والعرقي الموجود، أفضل وأبقى لحاضر سورية ومستقبلها.