المدن القديمة في موريتانيا: على حافّة الغياب

المدن القديمة في موريتانيا: على حافّة الغياب

22 ديسمبر 2016
(في البلدة القديمة، الصورة: Maremagnum)
+ الخط -
هي مدنٌ كانت يومًا ما مسرحًا لأحداثٍ مهمّة جدًا، انعكست تأثيراتُها على الحيّز الجغرافي العام المُحيط بها، لتُشكّلَ بذلك تجمّعاتٍ حضاريّة تحملُ في داخلها أنماطًا ثقافية ومعماريّة وعرقيّة عدّة. وهي الأنماط التي قام الروائي موسى ولد ابنو بتخليدها في روايته "مدينة الريّاح" قبل أزيد من عشرين سنةٍ، عندما تناولَ بعض مظاهر تلك المدن، في المرحلة الوسيطة، كأماكن تتجسّدُ فيها أحداثٌ من الماضي يُرهقها انعكاسُ تطوّرات الحاضر الحديث.

اكتسبت موريتانيا المُعاصرة تراثها الأثري المعماري، عبر مراحل تاريخيّة قديمة؛ ففي الفترة الوسيطة، عندما كانت آنذاك مجالًا مُهمًّا لتحركاتٍ سياسيّة وثقافية واقتصاديّة كبرى. كانت البلاد تحملُ تسميّاتٍ عدة غيرَ تسميتها الحاليّة التي ظهرت رسميًا مع بداية الستينيات، برزت بعضُ المدن ذات المظهر المعماريّ الفريد، بوصفها، أساسًا، محطّاتٍ مركزيّة للقوافل التجاريّة.

بُنيت المدن الأثريّة في موريتانيا الحالية على نمط "مدن القوافل"، المرتبطة بظهور القوافل التجاريّة التي كانت يومئذٍ مزدهرةً بين أطراف أفريقيا الغربيّة. وهذا ما يتأكّد عندما نجدُ أنّ بعضها يندثرُ مباشرةً بفعل تحوّل المسالك التجاريّة، أو إثر انقطاع تجارة القوافل التي بدأت في الأفول تدريجيًا، عندما ظهرت الكشوفات الجغرافيّة للبرتغال منذ القرن الـ15 للميلاد، وما ترتّب عليها لاحقًا من إرساء مراكز جديدة للتبادل التجاري على الشواطئ الأطلسيّة.

فكما أنَّ العامل الاقتصادي المُتعلّق بمسار التجارة، هو المُتسبّب الأوّل تقريبًا في ظهور هذه المدن، وذلك مطلع القرن الثامن الميلادي عبر القوافل التي تسعى لجلب الذهب والرقيق من بلاد السودان، فإنّه أيضًا، بطريقةٍ ما، كان هو المُتسبّب الأبرز في اندثار مراكز بعضها حينذاك، مع بدايات قدوم المُستعمر الأوروبي، ممثلًا في الكشوفات البرتغاليّة الباكرة التي قامت بالقضاء على مراكز التجارة القوافليّة واستبدالها بمراكز شاطئيّة جديدة.

فإذا كان القرن الثامن الميلادي آنذاك، هو بداية انطلاق القوافل التجاريّة الكبرى، فإنّه أيضًا كان بداية فعليّة لانتشار الإسلام لأوّل مرة في ذلك المجال الجغرافيّ الصحراويّ، فعملية نشر الإسلام في سنة 734م على يد أحفاد عقبة بن نافع: حبيب بن عبيدة وعبد الرحمن بن حبيب، كانت قد استعانت بتنشيط التبادل التجاري، كوسيلةٍ ناعمة سعيًا للتوغّل، وهذا ما يُشير إلى تداخل العامل الاقتصاديّ بالعامل الثقافي في مرحلةٍ حرجةٍ من ظهور هذه المدن.

يتحدّث أستاذ التاريخ الثقافي، في جامعة نواكشوط، عبد الودود ولد عبد الله لـ"جيل" عن قيمة هذه المدن فيقول: "القيمة الفريدة لهذه الحواضر إنما تعود إلى وجودها في وسط طبيعي وضمن محيط سياسي واجتماعي لا يساعد على الاستقرار، وبروز وظيفتها التجارية الجامعة بين عوالم متباعدة، وكذلك وظيفتها الثقافية الفريدة في قلب الصحراء".

المُميّزات التي تمتّعت بها هذه المدنُ هي محورُ أهميّتها الآنَ. فمع تعاقب أنظمة الحكم، والتي تولّت في فتراتٍ متفاوتة تارخيًا زمام الأمورِ في هذه المدن، فقد كانت هنالك أيضًا أنماط عرقيّة وثقافيّة متعدّدة استطاعت أن تخلق مناخًا من التعايش المُنفتح، كما عُرفت هذه المدن بأنشطةٍ الرعي والزراعة واستخراج الملح، في إطار حالةٍ من الإشعاع التجاريّ النشيط الذي شهدتهُ بوصفها محطاتٍ مركزيّة في الطريق الطويل للقوافل التجاريّة. كل هذا من دون أن ننسى أيضًا الميزة الأخرى الأهمّ، وهي وجود صناعاتٍ ومخطوطات محليّة كثيرة، عبّرت عن التطوّر الثقافيّ الكبير الذي وصلت له هذه المدنُ في زمنها، قبل أن يندثر بعضها ويبقى البعض الآخر في عزلةٍ تامّة.

في ذلك الصدد يوضّح عبد الودود ولد عبد الله: "في الاصطلاح تعني عبارة "المدن التاريخية" أو "المدن القديمة" الحواضر التي كانت موجودة وما زالت موجودة منذ مجيء الاستعمار، وهي: ولاتة، تشيت، شنقيط، ودان، أطار، أوجفت، تجكجة، آقريجيت، النعمة، وقد يُقصر التعريف على الحواضر المصنفة تراثًا إنسانيًا من قبل اليونيسكو، وهي الأربع الأولى من القائمة أعلاه؛ أمّا المدن المندثرة فيعبّر عنها باصطلاح "المدن الأثريّة" مثل: "أزوكي، كمبي صالح، أدغست، قصر السلام، قصر البركة، ترني".

ذلك أنّ هناك الآنَ تصنيفيْن مُعتمدينِ أكاديميًا بخصوص المدن الموريتانيّة في ما قبل الدولة الوطنيّة، الأوّل منهما يتعلّق بتلك "المدن الأثريّة" التي اندثرت قبل مدةٍ طويلة، ككومبي صالح وأوداغوست وأزوكي وغيرها، نظرًا لارتباطها المصيري بطريق القوافل القديم، أمّا الثاني فيتعلّق بتلك "المدن التاريخية" التي مازالت قائمةً تُقاوم الاندثار، وهي المدن المعروفة الآنَ على نطاقٍ واسع مثل شنقيط وودان.

وكانت اليونيسكو في العام 1983 قد صنّفت هذه المُدن الأخيرة ضمن لائحة التراث الإنسانيّ المُشترك، وذلك كتنبيهٍ على أهميّتها الحضاريّة والمعماريّة ضمنَ مشروع الاهتمام بالتراثيات البشريّة التي تحتوي على درجةٍ عاليّة من الإبداع الفنيّ والمعماريّ الذي يُشكِّلُ صلةَ ربطٍ بعهدٍ قديم كان الإنسانُ فيه يمتلكُ أساليبَ إبداعٍ خاصّة به.

مع ذلك، فالمدن القديمة اليوم في موريتانيا تعاني حالة من التهميش الكبير، لا تنقطعُ إلا مع السياسة الشكليّة المؤقّتة التي تقومُ الدولة بها نهاية كل سنة، وذلك من خلال مهرجانٍ ظهر في عام 2010، يتمُّ اختيار إحدى هذه المدن في كل سنةٍ موضوعًا ومكانًا لدورته الاحتفاليّة التي لا تخلو من عبثيّةٍ في الممارسة، نظرًا لاستغلاله على نحوٍ مشين في مدحِ النظام الحاكم. وكان برنامج الحفريّات في موريتانيا المتعلّق بهذه المدن التاريخيّة قد توقف في نهاية السبعينيات متأثرًا بعوامل عدّة أبرزها التحوّلات السياسية بعد أوّل انقلابٍ عسكري في العام 1978 بموريتانيا.

واليومَ، وعلى الرّغم من القيمة الكبرى لهذه المدن على المستوى البشريَّ والحضاريّ العامّ، والتي دفعت بعض المؤرّخين والانثربولوجيين من خلفيّاتٍ متعدّدة إلى دراستها في أعمّالٍ خاصّة، فإنّها في حاضرها اليوميّ تعيش حالة من التهميش والعزلة في الصحراء تجعلها مهدّدة كثيرًا بالانقراض في كل الأوقات.