المجالس المحلية السورية: إدارة مدنية وخشية من استغلالها للتقسيم

المجالس المحلية السورية: إدارة مدنية وخشية من استغلالها للتقسيم

24 أكتوبر 2017
معالجة ملف النازحين تفوق قدرة المجالس (مصطفى سلطان/الأناضول)
+ الخط -
على مدار نحو ست سنوات، تمكّنت المجالس المحلية في سورية من إدارة المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية كبديل عن مؤسسات النظام. لكن السؤال هو هل يمكن أن تشكل هذه المجالس، التي استمرّت بسبب عدم وجود بديل، نواةً لإدارة الحياة المدنية في سورية؟ أم أنها بداية تقسيم لهذا البلد بشعار الإدارات المحلية، وخصوصاً أن هذه النمط بات يتردد على لسان مسؤولين دوليين حين يتحدثون عن حلول تمهيدية لإنهاء الحرب السورية، أكان في مؤتمرات أستانة الأمنية أو في جنيف، على اعتبار أن إشعار المواطنين بأنهم يتحكمون بمصيرهم في بلداتهم ومدنهم وقراهم قد يكون مدخلاً للامركزية إدارية، يرفض كثيرون أن تتحول إلى لا مركزية سياسية، أو إلى فدرالية.

وأصبح المجلس المحلي في مدينة سراقب بريف إدلب، شمال سورية، في منتصف يوليو/تموز الماضي، أحدث تلك التجارب إذ أجرت البلدة الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، انتخاباتها المحلية للمرة الأولى. ووثّقت "العربي الجديد" أبرز الصعوبات التي واجهتها المجالس المحلية خلال سنوات الثورة في سورية، والتحديات التي قد تواجهها مستقبلاً في ظل الحديث عن دور قد تؤديه تلك المجالس في الحل السياسي للقضية السورية ودمجها بحكومة سورية المستقبلية، إضافةً إلى علاقتها بالذراع العسكري المعارِض، وإمكانية استمرارها إذا غاب دعم المنظمات عنها. وتأسست المجالس المحلية بسبب الحاجة إليها في بدايات الثورة السورية كتجارب شبابية لخدمة مناطق سيطرة المعارضة، وما لبثت أن تحولت إلى مؤسسات ذات هيكلية مع انطلاق العام 2013، وتركّزت أعمالها على تقديم الخدمات المدنية وتسيير أمور المواطنين وتنظيم فعاليات المجتمع المدني. وجاء في استطلاع للرأي، أجراه مركز عمران للدراسات، منتصف العام الماضي، أنه تم تشكيل نحو 57 في المائة من هذه المجالس بناء على توافقات بين المكونات المحلية، بينما جاءت 38 في المائة من تلك المجالس نتيجة الانتخابات، و5 في المائة اعتماداً على آليتَي التعيين والمبادرة الفردية. وتتدرّج هذه المجالس على مستوى المحافظة ثم البلدة فالقرية، ضمن تسلسل يغطي كافة النواحي الجغرافية، ليصل عددها إلى أكثر من 400 مجلس في عموم سورية.

تحدّيات 

تواجه هذه المجالس سلسلة تحدّيات، بعضها نتيجة الظروف المحيطة بها وأخرى تتعلق بالمرحلة المستقبلية. وتنطوي أبرز المشاكل على قلّة الدعم، وحاجة بعض الموظفين داخلها إلى التأهيل والافتقار إلى الهيكلية التنظيمية الواضحة، إضافةً إلى حالات الفساد التي تنخر بعض مفاصلها. وقال رئيس مجلس محافظة إدلب، غسان حمو، لـ"العربي الجديد"، إن "عمليات الفساد تتم في الجانب الإغاثي، إذ تصل مخصّصات إلى ألف عائلة، يتم توزيع 300 منها فقط عن طريق المنظمات، ولا علاقة للمجلس المحلّي بهذا الجانب"، لافتاً إلى أن مجلس محافظة إدلب طالب بفصل ملف الإغاثة عن المجالس المحلية لهذا السبب. واعتبر أن الفساد الموجود في المجالس أقل بكثير من الفساد في جهاتٍ اخرى.

وقال الباحث في مجال الإدارة المحلية في مركز عمران للدراسات، أيمن الدسوقي، لـ"العربي الجديد"، إن "المجالس المحلية تشكّلت وفق مبدأ الضرورة، وبما أتيح لها من إمكانات وموارد وكوادر. ومقارنة مع لحظة تشكلها، فقد تطورت وراكمت خبرات وتمكنت من إيجاد حلول ناجعة لبعض المشاكل التي تواجهها"، لكنه أوضح أن الكثير من المشاكل التي تواجهها تفوق قدرتها على التعامل معها، ومنها على سبيل المثال ما يتعلق بمعالجة ملف النازحين داخلياً، والنتائج المترتبة على القصف الجوي وتدمير البنية التحتية وضبط الوضع الأمني. واعتبر أن معالجة هذه المشاكل غير منوط فقط بإعادة هيكلة المجالس، إنما بعوامل أخرى، مثل توافر التمويل والاستقرار الأمني والعلاقات الجيدة مع الفاعلين المحليين، مبيناً أن إعادة هيكلتها، وفق الأنظمة المتبعة في وزارة الإدارة المحلية في الحكومة المؤقّتة، ساهم في توحيد الهياكل الإدارية وتعزيز ترابط المجالس ببعضها البعض، مع وجود استثناءات لبعض المجالس التي لا تزال تُشكل وفق آليات خاصة، لذلك فإنها لا تحظى باعتراف من قبل مجالس المحافظات ومن قبل الحكومة المؤقتة. ولخّص رئيس مجلس محافظة إدلب، غسان حمو، لـ"العربي الجديد"، أبرز الصعوبات التي يواجهها المجلس، وهي تدخّل الفصائل العسكرية بعمل المجالس، وعدم توافر موارد مادية ثابتة، إضافةً إلى القصف العشوائي وسياسة التغيير الديمغرافي، واستهداف المنشآت المدنية الذي أدى إلى هجرة الكوادر البشرية في هذه المجالس.

ومن المطالب التي تم الحديث عنها خلال اتفاق "وقف إطلاق النار"، الذي توصّلت إليه روسيا وتركيا في 29 ديسمبر/كانون الأول 2016، ما تم تسريبه عن ضرورة أن يكون هناك دور للمجالس المحلية في مستقبل البلاد. وفي هذا الصدد، اعتبر الباحث أيمن الدسوقي أنه من غير الدقيق ربط ممارسة المجالس بدور سياسي، كونه يوحي بأن المجالس المحلية لا تمارس هذا الدور. وبيّن أن عمل المجالس، في جوانب مختلفة، أعطاها صفة الشرعية المستمدة من السكان المحليين، إما عبر التوافق أو الانتخابات، بالإضافة إلى دورها ونجاحها إلى حد ما بالاضطلاع بوظائف الدولة في مناطقها، مشدّداً على أن الاعتراف بها كفاعل أساسي في أي مفاوضات هو تضمين لها في الحل السياسي المقبل.


تباين المرجعيات بين النظام والمعارضة

وقال مصدر في المجلس المحلي في ريف دمشق، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك عقبة واضحة في وجه تفعيل دور المجالس المحلية، تتمثّل في تباين المرجعيات بين مؤسسات النظام ومؤسسات المعارضة، فكل منها ترى الشكل الإداري بطريقة مختلفة، وكل منها يرى الحل السياسي من وجهة نظر مغايرة". وشاطره الرأي الباحث أيمن الدسوقي، الذي اعتبر أن وجود المجالس ضمن حكومة متكاملة يستلزم توفير الإطار الدستوري والقانوني والإداري لتنظيم هذه العملية. ورأى أنها قادرة على أداء دور في الحكومة الجديدة لأنها تمتلك الشرعية، بالإضافة إلى أنها راكمت الكثير من الخبرات خلال عملها في الفترة الماضية. وبحسب استطلاع مركز عمران، في مايو/أيار 2016، فإن المجالس "تمارس دوراً خدماتياً بالدرجة الأولى، مستندةً إلى شرعيتها المبنية على قبول المواطنين، إلا أنها في الوقت ذاته تملك مقومات الفاعلية السياسية". وأضاف الاستطلاع أنه على الرغم من الميل العام لدى عينة من المجالس لقبول مبدأ التفاوض على المستوى الوطني، إلا أن ذلك لا ينسحب على قبولها باتفاقيات الهدن المحلية.

المجالس وشبح المعابر

منذ انتزاع المعابر الحدودية مع تركيا من أيدي نظام بشار الأسد، وهي تُدار من قبل جهة عسكرية بحتة. وقال رئيس الحكومة السورية المؤقتة، جواد أبو حطب قبل أسابيع إن الحكومة اتفقت مع أنقرة على استلام المعابر الحدودية بين سورية وتركيا، والإشراف عليها، لافتاً إلى أن الحكومة السورية المؤقتة تبحث مع الحكومة التركية كيفية استلام إدارة تلك المعابر، خصوصاً معبر باب السلامة، وكيفية الحصول على تسهيلات ودعم لوجستيّ من الفصائل السورية التي تسيطر على تلك المعابر. وقد تسلمت بالفعل الحكومة المؤقتة إدارة هذا المعبر قبل أسبوعين.

غير أنه ليس من السهل انتزاع هذه المعابر من أيدي الفصائل، لا سيما أنها تحقق دخلاً كبيراً. وأشار الباحث أيمن الدسوقي إلى أن تركيا تملك نية جدية لدعم تولي الحكومة المؤقتة لهذا الملف، مشيراً إلى أن المجالس تملك مقومات لإدارتها، خصوصاً أنها جهة مدنية، وهو ما يريح السكان. كما تملك كوادرها خبرة في تنظيم الأعمال الإدارية، ودراية بالقوانين الناظمة لعمل الهيئات والمديريات، ولديها علاقات إيجابية مع الفاعلين المحليين. ولفت إلى أنه ليس من السهل تخلّي الفصائل عن هذه المعابر، كونه مرهوناً بمدى تواجد إرادة تركية جدية لذلك.

بدوره، أوضح حمو أن المجالس المحلية جاهزة مائة في المائة لتسّلم هذه المعابر، ولديها الخبرات الكافية لذلك، لافتاً إلى أن أمر تسليم الفصائل للمعبرين (باب الهوى إضافة إلى باب السلامة) يمكن أن يتم بطلبٍ تركي. واعتبر أن الوضع بات معروفاً للجميع بتدخّل العسكر في عمل المجالس المحلية. وقال إن "الفصائل يجب أن تحمينا من العدو الخارجي لنقوم بتسيير أمورنا، لا أن تتدخّل في عملنا"، مشيراً إلى أن تدخّلها باتخاذ القرارات يؤخّر وضع الحلول للمشاكل في المنطقة، إضافةً إلى أنه يعيق عملية الدعم، مشيراً إلى أن قرار حفر بئر مثلاً يخضع لإرادة الفصائل ووفقاً لمصالحها الشخصية.

لكن الدسوقي خالفه الرأي، معتبراً أن هناك علاقة إيجابية بين الجيش الحر والمجالس، لكنه أشار إلى حالات صدام تحدث مع بعض الفصائل الإسلامية التي تملك مشروعاً خاصاً بها، مضيفاً أن هذه الحركات تحاول الهيمنة على المجالس وجعلها تابعة لها أو إلغاءها، بما يصب في تعزيز مشروعها الخاص بالحكم، وهو ما يظهر من خلال محاولات حركات جهادية التأثير في تشكيل المجالس المحلية، أو ضبط عملها وفق قواعد تنظيمية صادرة عنها. وأرجع الدسوقي أصل العوائق بين المجالس والفصائل إلى ضعف الإطار التنظيمي بين الطرفين، لجهة تحديد مجالات عمل ودور وصلاحيات كل طرف، فمثلاً تحاول بعض الفصائل التدخل في عمل المجالس في توزيع الإغاثة، أو إدارة ملف خدمي، أو في عملية تشكيلها، وهو ما يؤدي إلى نشوب خلافات بين الطرفين. وتوقّع أن تندلع خلافات بعد الحل السياسي، يكون جوهرها التنافس على الموارد والنفوذ والشرعية، إذ إنه من المفترض أن يزيد الحل السياسي من حضور ودور المجالس، خصوصاً ما يتعلق بتلبية الاحتياجات الكبيرة للمجتمعات المحلية الخارجة من الصراع، وإعادة توطين النازحين، وعودة اللاجئين والتنمية المحلية والإعمار والانتخابات المحلية وغيرها، وبالتالي سيكون ذلك على حساب الفصائل التي قد تتخوف من تراجع دورها وفقدانها للموارد والنفوذ.

انخفاض بريق الداعمين

لا تزال هذه المجالس تعتمد، منذ نشأتها، على دعم المنظمات لمواصلة عملها، وهو ما اعتبره غسان حمو "دعماً سلبياً"، كونه لا يؤدّي إلى تشكيل نواة أساسية للمجالس. وأوضح أن غياب الدعم الدولي يجعل الفصائل تقدّم هذا الدعم السلبي، في الوقت الذي يحاول فيه مجلس المحافظة تحويل المشاريع الإغاثية إلى مشاريع تنموية، وبناء المؤسسات ضمن أنظمة داخلية، لضبط عمل المجالس وعلاقتها ببعضها البعض ضمن إدارة واحدة. من جهته، اعتبر الدسوقي أن لدى المجالس قدرة على التأقلم في حال غياب دعم المنظمات، من خلال أساليب عدة، أبرزها التقليل من الخدمات المقدمة، أو اكتفاؤها بالتحول إلى جهة تنظيمية تنسق عمل الهيئات المحلية. يضاف إلى ذلك تنوّع مصادر الدعم لتشمل التبرعات من الأفراد والهيئات المحلية المدنية منها والعسكرية، والضرائب والرسوم المحلية، وعوائد استثمارات المشاريع التي أسستها، وإدارة أملاك الدولة. من الطبيعي أن تتفاوت تجارب المجالس المحلية. ويعود ذلك إلى عوامل عدة، منها توافر الكوادر واستقرار التمويل والبيئة الأمنية والعلاقة مع الفصائل والحدود وتوافر الشرعية. هذه العوامل قد تتوافر لدى مجلس من دون آخر، وبالتالي ثمّة تجارب سيئة، كما يوجد أخرى ناجحة. وشرح الدسوقي أنه لا يمكن الحكم على تجربة مجلس محلي يعمل في منطقة حصار بأنها سيئة، ومقارنتها بتجربة رائدة لمجلس محلي يعمل في منطقة حدودية آمنة، وتتوافر له الموارد والإمكانات، مشدّداً على أن كل المجالس، على اختلافها، قدمت أقصى ما لديها، وضمن بيئة صراع معقدة لخدمة مجتمعاتها، وكان لبعضها تجربة رائدة في مجال معين.

ونجحت بعض المجالس في إدارة العلاقة مع الفصائل العسكرية والتوصل إلى صيغة عمل مشترك، في حين كان لمجالس أخرى تجربة مميزة في إقامة المشاريع الاستثمارية، وأخرى كان لديها تجربة رائدة في استقطاب الكوادر وإدارة الملف الخدمي. وأضاف الدسوقي أن "أفضل التجارب التي أسست لها المجالس المحلية، هي إفساح المجال للسكان المحليين للانخراط في إدارة الشأن العام، عبر آليات متعددة، بدءاً من تشكيل المجالس إلى مراقبتها وعزلها، وهو أمر كان محرماً عليها سابقاً". واعتبر الدسوقي أن المجالس، وعلى الرغم من البداية المتعّثرة، استطاعت النجاح في اختبارين، هما البقاء والفاعلية. وقال "من جهة تمكنت المجالس من الاستمرار رغم كثافة الضغوط العسكرية والاقتصادية والخدمية التي تعرضت لها. وتشير آخر التقديرات إلى تواجد نحو 400 مجلس، تتوزع في مناطق سيطرة المعارضة. أما من جهة أخرى، فطورت المجالس من آليات عملها واستطاعت تطوير وظائفها لتشمل باقة متنوعة من الخدمات، كإدارة السجلات المدنية والقيام بمشاريع تنموية وتوفير الخدمات الأساسية، بعد أن كان عملها، في بداية تشكيلها، يقتصر على الجانب الإغاثي". ورأى الدسوقي أن المجالس حقّقت تطوراً ملموساً في مجال العمل المؤسساتي، فبعد أن كانت تفتقد إلى هياكل إدارية وتوصيفات قانونية، باتت اليوم تعمل وفق أنظمة داخلية واضحة. وفي حين أنها كانت تعتمد، بداية تشكيلها، على العناصر ذات الخلفية الثورية، فإنها اليوم تعمل، وبشكل متزايد، على استقطاب الكوادر التخصصية لتشغيل هيئاتها وإداراتها ومكاتبها، بالإضافة إلى أنها طورت من آليات التمثيل والمشاركة الشعبية، لتشمل صيغا عدة تتراوح بين الانتخاب المباشر أو الانتخاب غير المباشر أو من خلال التوافق المجتمعي.