المجالس العلمية و"داعش"

المجالس العلمية و"داعش"

20 أكتوبر 2014
+ الخط -

إن حضور قرابة الألفي مغربي ضمن مقاتلي داعش، في العراق وسورية، يطرح على المجالس العلمية المغربية سؤال فعالية التأطير الديني التربوي، والذي أوكل إليها باعتبارها أذرعاً معرفية شرعية لإمارة المؤمنين السُّنية أشعرية العقيدة، المالكية مذهباً فقهياً، الجنيدية تصوفاً. ثالوث ديني صهره التاريخ المغربي، في تفاعل مع جغرافية الثغر الغربي، اللصيق بالعالم المسيحي، في التصنيف القديم، والاتحاد الأوروبي الحداثي، كما يصنف اليوم.

المفروض في هذا الظرف الدولي الحرج، الذي لم يعد فيه هامش للصبر على صولة الإرهاب العابر للأوطان، والمؤسس لكيان نشاز خارج المنظومة الدولية، وخارج التاريخ، ألا يشتغل، تأطيرياً، ضمن حدود إمارة المؤمنين غير هذا الثالوث.

حينما يكون الأمن الروحي للمواطنين مهدداً، وحينما تتواتر البراهين التي تؤكد أن للتيارات التكفيرية المقاتلة مرجعيات عقيدية وفكرية محددة، يعتمدونها بوثوقية تامة؛ وهي مرجعيات مدعمة مالياً وإعلامياً؛ لا مجال للحِجاج المستند إلى الحق في حرية المعتقد والتعبير، المكفولين دولياً. إن الأسبقية للحق في الحياة والأمن الروحي، كما تُعَرفه الدولة.

واعتباراً للظرف نفسه، وصداً لكل الطموح الإرهابي، الداعشي بالخصوص، يجب أن تنكب المجالس العلمية باستعجال، مؤطَّرةً بالمجلس العلمي الأعلى، على نموذج للاشتغال التربوي، يحقق المسافة الصفر بينها وبين الشباب المغربي، بالخصوص. نموذج يعزز التصور المغربي المتكامل لتجفيف منابع الإرهاب الدولي، والذي عُرض، أخيراً، على اللجنة الأممية المختصة، بعد أن قطعت الدولة شوطاً مهماً في تبيئته، مغربياً وأفريقياً.

ليس في نيتي الانتقاص من الدور الحالي للمجالس العلمية، وهي غير منتخبة ديمقراطياً، وهذا من عللها البنيوية، لكنني أراه دوراً خاملاً، بطيئاً، لخمول الشريحة العمرية المُسنّة التي تنشط وسطها. طبعاً من حق هذه الفئة من المواطنين أن تستفيد من الخدمات التأطيرية لهذه المجالس، كما تستفيد من خدمات طب الشيخوخة، لكن الإرهاب شابّ مفتولُ العضلات والتكفير، شاكي السلاح، وحتى خريج نوادي في شتى رياضات المصارعة.
 
هذه الكتائب المغربية الموجودة حالياً في الخطوط الأمامية للقتال، في العراق وسورية، لم تولد داعشية، وإنما دُعِّشت في غفلة من مجالسنا العلمية الرسمية، وعلمائنا وفقهائنا، وحتى أساتذتنا، في الوطن كما في المهجر.

يقوم هذا دليلاً على أن الإرهاب الأسود لا يسلك، مُستقطباً، السبل نفسها التي يسلكها العلماء البيض (ذوو الجلابيب البيض). وقد قرأت، أخيراً، كلاماً دالّاً لأحد خطباء وكتاب وجدة، القريبين من مجلسها العلمي، يقارن فيه بين مكان المصلى في المدينة، يوم العيد، وقد ضاق بحشود المصلين، ومكانٍ كان، ولأيام، ركحاً لأغاني "الراي" وجلبة ورقص الغاوين.

طبعاً، لا ينتظر من الخطيب، سيراً على نهج مجالسنا العلمية، أن يبحث له عن مسلك، عدا التقريع، إلى عقول شباب الراي، ليطمئنوا إليه، ولا ضرر حتى في مراقصتهم، تأليفاً لقلوبهم، على النهج التربوي لأئمة كثيرين وللسلف الصالح. ليس المطلوب، هنا، ثنيهم عن "الراي"، إذ لم يحرّمه نص، وإنما إزاحة الوهم المعشش في العقول، والذي يجعل من المسلم الملتزم إنساناً متجهماً بالضرورة، مكفراً للمجتمع، وكل همه تصيد الزلات ليرتاح لاختياره.

إن قتل عمر الكافر، كان سَيُخْسِر الأمة في عمر الصحابي والخليفة. ومن هنا دعاء الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالهداية لأحد العمرين. وسبق أن فاتحت فقيهاً في قبيلتي، متسائلاً: لماذا يتجهم القرويون في حضورك، وهم أهل نكتة وضحك؟ لو كان يستطيع أن يجيب لما هجر المرح أماكن وجوده. إن ثنائية المقدس والمدنس، كما تبرز في مثال المصلى، هي الضابط أو المعيار الذي يحكم أداء المجالس العلمية. لا تعنيها مساحة "المدنس"، كما تفهمه، وتسعى جاهدة لكي تلازم المقدس لا تبرحه. هنا بالضبط تبرز الحدود الفاصلة بين منهجيتين متباينتين: منهجية الاستقطاب الإرهابي الأسود، ومنهجية الاستقطاب الأبيض.

تشتغل داعش، حالياً، ضمن مساحة المدنس، حيث لا وجود للمجالس العلمية. تبحث عن شباب، وليس عن شيوخ. عن متذمرين من أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وليس عن فئة المتقاعدين، المرتاحين والهادئين. تبحث عن الطبع الدموي الثاوي في النفوس، وعن أحلام البطولة، والأقدام الخشنة، المستعدة للمشي فوق الجماجم. ثم تبحث عن احتياطي التيستوستيرون، الذي يفهم جيداً ماذا يعني سبي العذارى، وزيجات الليلة الواحدة، وحتى الثلاثين دقيقة.

لا شك أن هذا كله لا يقع خارج مساحة المدنس، حيث لا يوجد غير علماء كلما أنهوا نقاشاً فقهياً ودونوه، رجعوا بالعداد إلى الصفر، لمعاودة الرحلة نفسها إلى الهدف نفسه، أو اللاهدف. (نقاش الإرث في زمن الغنيمة والسبي). ونقاش المساواة في زمن الاسترقاق والبيع.

خرج من فوهة البركان الشرقي ديناصور "الخلافة"، ومجالسنا لم تبرح بعد نقاش البدايات في كل مجالات الشريعة، وكأن المغاربة ينسون إسلامهم نياماً، ليستيقظوا على اعتناق جديد، وفتاوى جديدة. بقدر ما أرتاح، كغيري من المواطنين، إلى جهود الأجهزة الأمنية المختصة في إسقاط شبكات الاستقطاب، التي تخدم أجندة إرهابية خارجية، بقدر ما أتمنى أن يكون هذا الإسقاط بمدلول معرفي تربوي، تقوم به، مع غيرها، مجالسنا العلمية.

لا بد من إعادة النظر في بنية هذه المجالس ومجالسها، حتى تؤدي دورها في تجفيف منابع الإرهاب، وتفكيك حواضنه الاجتماعية. لا يمكن لهذه المجالس أن تحيط بالظاهرة الاجتماعية، وليس الدينية فقط، وتفهّم الدينامية المتحكمة فيها، وأغلب زادها معرفة شرعية تكاد لا تُصنف زمنياً. إننا بحاجة إلى مجالس للتأطير الاجتماعي والمواطنة، وليس فقط، إلى مجالس علمية، بالمفهوم الذي يعطى للعلم فيها. لم يعد المجتمع بحاجة إلى العالِم النحرير، وإنما إلى فكر التنوير والتحرير.

6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)