المثقف والتكيّف في عالم مختلف
المثقف والتكيّف في عالم مختلف
يقول مهدي عامل:"الحياة في التناقض والاختلاف، والموت في السكون والتماثل".
تكشف صورة المثقف الفلسطيني، والعربي عموماً، مع اندلاع شرارة الربيع العربي، عن وهنه وهشاشته، وتشي بتحولاتٍ عميقةٍ، قد تعيد تعريف السياسي والمثقف لدينا، ومراجعة نقده في مواقف سابقة للثورات العربية، وذلك بإعادة إنتاج بدائل ثقافية وسياسية، تحافظ على صورة الفلسطيني رافض الاحتلال، وصورة العربي رافض الطغيان، ومناهض كل أنواع الارتهان والارتزاق لشعارات يذبح بها أبناء جلدته، وأشقاءه في درس الصمت المخزي.
حجبت بعض كتابات "النخبة" العربية والفلسطينية، روائية وسياسية، حقائق بديهية، واستحضرت خواءَها المغلف برطانة اللغة المفعمة، والمشبعة بشعاراتٍ، يُراد بها، ومنها، أَن يتعايش العربي الجديد مع ذبح شقيقه، قبولاً بالإذلال والخنوع، خدمةً لشعارات من قبيل "المؤامرة تكمن في كل شيء". وهذا الاتجاه الذي يمثله رهط من كتبة ومثقفين، برهانٌ غير ثوري على ما يقدمونه من رخاوة الثقافة والسياسة التي تعمل على تفكيكهم، بالاستجابة "المهذبة" لخطاب النظام العربي، والقفز المستمر نحو مستنقع أفكار المؤامرة والإمبريالية العالمية والصهيونية. ويتم، هنا، استحضار هذه الجمل تحديداً، للإحالة إلى نقد وتحليل منقوصين، لما حفلت به أدبيات النضال الفلسطيني السياسية والثقافية، طوال حقبة "التحرر الوطني"، من الاحتلال والحلم بحق العودة وانتهاءً من فترة الضيافة في الحضن العربي. وعليه، كان الإنتاج الثقافي العربي يركل ذاته أمام متغيرات الشارع العربي.
وإذا كان النقد المستمر واتخاذ المواقف ينسحب، والحالة هذه، على المثقف والروائي والسياسي الفلسطيني، والذي حلل حالة الإفلاس والبؤس الفكري للقيادة الفلسطينية التي أنتجت عقليتها اتفاق أوسلو، وراهنت على شطب حق العودة للاجئين، فإننا نرى القيادة المذكورة، اليوم، تتسيد المنابر في إنكار مستمرٍ لحالة ذبح متواصل لشعب شقيق، يحتضن اللاجئ، وتنكر ذبح الفلسطيني وتصمت عنه، وتختبئ خلف جدار "المؤامرة"، وخلف الحائط نفسه، وتبلع لسانها في مشهد تدمير مخيمات اللاجئين، و"تايتانيك" الفلسطينيين في عرض البحر.
رطانة اللغة السياسية، بأفكارها التفكيكية، إحدى سمات "المثقف والكتبجي" الفلسطيني والعربي الذي يعمل على اجتثاث البديهيات والأدبيات من قاموس النضال الفلسطيني، في ظل متغيرات المشهد العربي الراهن. كونها، من وجهة نظر بعضهم، لا تنطبق على ما يجري في شارع عربي آخر.
أنتجت الحالة تلك "مثقفاَ جديدا"، يعاني صعوبات التكيف مع الثورة في الشارع العربي، بعد أن بحث مثقفون عن نمطٍ مهذبٍ من الثقافة الرخوة، لينتجوا خوفاً مستمراً على مكاسب، أو لينجوا من مكر سلطوي، يقابلهم بمكافآتٍ على الصمت والتلفيق ارتضاءً بالتلقين. وقد أَطلق الراحل إدوارد سعيد على هؤلاء صفة "المثقفين الاحترافيين" الذين يتناولون كل شيء، وكل القضايا، ويطردون الشأن العام والواقع من كتاباتهم.
وفي حالة المذبحة المستمرة، هناك إغماض للعين والعقل، وانشغال بالوهابية والسلفية والإخوانية والقاعدة، في حالة من فوبيا الإرهاب التي يستخدمها أَعداء العروبة، ورهط الكتبجية، للهروب من مكر السلطان، وهم فئة أخرى من المثقفين الهاربين. ويأتيك المثقف التلفيقي الذي يقول لك إنه يعرف مصدر القذائف التي تنهال على أبناء شعبه، وإن الخرطوش المستعمل للقتل مرتبط بالقاعدة والإخوان المسلمين والسلفيين، ليتحول إلى مثقفٍ تقني، يعدد خصائص النظام الرجعي العربي و"مؤامرة النفط". ويعتقد المثقفجي والكتبجي أَنه إذا ما حشر في أسطر ما يكتب عن المؤامرة والصهيونية والقومية العربية و"سايكس بيكو"، فإنه، في هذا كله، سيحجب أَسئلة المجتمع، وأسئلتنا عن جدوى الكتابة ومضمونها، لتغيب صورته وكتاباته ورواياته ومؤلفاته التي تتبرأ شخصيات رواياته منه، ويمنع استئناف الأسئلة، بتبريرات سخيفة وساذجة، ليبقى السؤال: من هو السياسي والمثقف، إِن هرب من الواقع، ولم يجب عن أسئلته؟
تعيد "الثقافة الجديدة" الوافدة على مجتمعات الثورات العربية إنتاج مثقفها الجديد، الواضح والغائم بأمطار، كشفت عن قبح الصورة المضادة والمتناقضة، ولم تمكنها من التكيف مع مناخها الطبقي، فاصطدمت بمظلات المجتمع العربي، لتنزاح نحو مجارير أخرى من البؤس المنفصم.
حالة الانفصام التي أصابت بعضهم بين أدبيات الأمس التي تنادي بالتحرر والتنمية والخلاص من الاحتلال، وأدبها وموقفها السياسي "الخانع والصامت"، والذي يهرب من الواقع إلى أَداءٍ تعبيري محايد، وينأى بنفسه بالفرار إِلى شرنقة الشعارات التي تعفيه من رؤية الواقع عند عتبات الأوطان، ظناً منه أن الجلوس في رحم شرنقته على شواطئ الأزمة، ورمي كتاباته في وجه العامة، من طقوس التمرس في اللعب باللغة التي لا تفيد في الخلاص من نرجسية المثقف، لأن الشارع الفلسطيني والعربي يقول ما لا تبوح به صفحات المثقفين المتماثلين مع السكون.